تخيم علينا سحابة من الشك وعدم اليقين، لم نعد نصدق ما نسمعه ولا نثق فيما نراه، النظام يبحث عن مشجب يعلق عليه إخفاقه فى لم شمل القوى الوطنية لتحمل معه مسؤولية المستقبل، يُرجع الأمر تارة لمؤامرة خارجية وتارة أخرى بسبب حجاب «وقف الحال» الذى يخفيه أهل الشر فى السرداب. نصب النظام نفسه ناظرا لمدرسة «مستقبل مصر»، فهو الذى يحدد المنهج، ويختار المدرسين و... و... حتى حارس بوابة المدرسة، والشعب يبحث عمن يساعده فى فهم فوازير الحكم، يتتبع آثار الأجهزة الخفية ويشم روائح مراكز القوى. بين النظام والشعب ثقب أسود مهول يبتلع كل محاولة لخلق جسور الثقة والشراكة، ويبقينا عالقين فى دوائر الحصار، وكأننا سكان برج بابل، رسائل النظام إلى الشعب تصل مبتورة ومبهمة، رغم لغة الرئيس البسيطة وارتجاله. وصوت الشعب يصل لصانع القرار جاحدا للإنجازات، متمردا على الطاعة، راغبا فى كماليات عصرية اسمها الحرية والكرامة.
منذ أيام تداول الإعلام عبارة للدكتور أحمد عكاشة يصف فيها الشعب المصرى بـ«المدلل الكسول»، وهو وصف يتعارض تماما مع حديث سابق لرئيس الدولة بأن الشعب «لم يجد من يحنو عليه»، فهل السيسى وعكاشة يتحدثان عن نفس الشعب؟ وأيهما نصدق؟ أننا مدللون أم مكسورو الخاطر؟ وهل أنت وأنا من هذا الشعب الذى يتحدث عنه عكاشة بتعميم عشوائى وهو رجل علم، أم أننا ننتمى للشعب الذى قسا عليه حكامه وانكسرت أحلامه تحت مطرقة المحسوبية والفساد والاستبداد؟
الحقيقة أننا هذا وذاك، ولسنا وحدنا فى ذلك، فالأفراد يختلفون فيما بينهم، وما يجعل منهم شعباً هو المشاركة فى حدود جغرافية واحدة وتاريخ واحد، ثم تأتى نظم الحكم لتضيف روابط أخرى توثق العلاقات بين أفراد الشعب، فى مقدمتها الدستور وحزمة القوانين المنظمة لحياة الناس. الدولة أُسست من أجل حماية الشعب من أعداء الخارج وتحقيق الأمن والعدل فى الداخل، وإدارة موارده بأفضل صورة. أنظمة الحكم الرشيدة تدرك كيف تجدل أفراد الشعب فى حبل واحد رغم اختلاف فروعه، وأهم وسيلة تحقق ذلك هى التعليم الجيد والمناهج المشتركة التى تصوغ العقول وتحفز الإبداع.
منظومتنا التعليمية سمك لبن تمر هندى، فلدينا تعليم: مجانى، تجريبى، لغات، خاص، «ناشيونال» و«إنترناشيونال»، هذه المنظومة العشوائية ينتج عنها خريجون لا يجمع بينهم سوى كلمة «مصرى» فى خانة الجنسية، وامتدت الكارثة للجامعات الطبقية.
الخريجون ينتمون لما تعلموه.. التعليم فى مقدمة الأسباب التى جعلتنا على ما نحن عليه، وبعدها تأتى القيم المشوهة التى انتشرت نتيجة فساد الحكم وساهمت فى نزع فتيل السلام الاجتماعى.
وهنا أعود لحديث د.عكاشة، هل رجال القوات المسلحة والشرطة والقضاء والأطباء والمهندسون والمحامون والصحفيون والإعلاميون... إلى آخر المهن، كسالى ومدللون؟ أم أن طبيب النفوس يقصد المنبوذين الذين لم يحصلوا على تعليم جيد ولا تدريب مثمر ويعيشون على الحافة، يتسكعون فى الأزقة فى الريف والحضر بالملايين فى انتظار فرج الله، أحلامهم كلها مؤجلة لحين ميسرة، وحتى تأتى المعجزة ينتهكون القانون، ويتحرشون بالنساء، ويمارسون العنف فى البيت والشارع، ويتعاطون المخدرات ويفعلون كل الفواحش؟
أبدى الرئيس السيسى إعجابه بالتجربتين الألمانية واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف استطاعت الدولتان أن تنفضا الركام عنهما وتصبحا عملاقتين، إن عُرف السبب بطل العجب، يمكنك أن تستولى على ممتلكات عدوك أو تمحوها من الوجود، لكن كيف يمكنك أن تنزع العلم من عقله، الحروب ليست النهاية، الشعوب امتلكت ما هو أهم من الحجر الذى تهدم.
رئيسنا مغرم بالإنجازات الحجرية، فهو عازم على إقامة العاصمة الإدارية الجديدة رغم الصعوبات الاقتصادية التى نواجهها، وبغض النظر عن ذلك لدىّ تساؤل: هل إقامة عاصمة جديدة ستنقلنا لمصاف الدول الكبرى المتقدمة، أم سنظل فى نظر عكاشة شعبا كسولا، وفى نظر العالم دولة متخلفة؟
للأسف الشعب المصرى أصبح فى نظر البعض مثل الزائدة الدودية التى ضمرت لعدم الاستعمال، والسبب الحكام الذين استبعدونا من حساباتهم، نُستدعى حين يريد الحاكم أن يثبت أنه مدعوم من شعبه، وإن طلب منا المشاركة فتكون لفترة محدودة ولهدف محدد، نعود بعدها للانزواء فى الركن البعيد الهادى.. ارحمونا وكفى ظلما لهذا الشعب.. سلحوه بالعلم ثم حاسبوه.