سد "النهضة".. خطيئة النفس فى حق النفس!3/6

يحيى غانم الأربعاء 23-03-2016 20:06

كارثة «الدبلوماسية الشعبية» ... من فوض من ولماذا؟

في المقال السابق طرحنا أسئلة بشأن نموذج لتعامل الدولة المصرية الرسمية مع قضية مياة النيل، وحصة مصر منها، وهى القضية الوجودية التي تسبق أي قضية أخرى من قضايا الأمن القومى بأميال. تمثل النموذج السابق في ذلك الموقف المثير للشك من جانب الرئيس الأسبق مبارك بالتفريط في المطالبة بمقابل نظير طلب إثيوبيا في العام 2007 إذن مصر بغزو الصومال، وذلك بالتخفيف من غلوائها فيما يتعلق بمواصفات سد «الأمر الواقع» ( النهضة) التي تهدد المصدر الوحيد للمياه لمصر.

الأسئلة القادمة تتعلق بكارثة سمح بوقوعها المجلس العسكرى الذي تولى السلطة بعد تنحي الرئيس المصرى الأسبق حسنى مبارك عنها.

ففى الأسابيع التي تلت تخلى مبارك عن السلطة، تدافعت شخصيات وكيانات حزبية معظمها كان جزءا من نظام مبارك- وجزء معتبر منها كان يلعب دور «معارضة» ممسرحة- لكى تأخذ بركة ثورة شباب 25 يناير. وبالرغم من هذا التحرك الممجوج أخلاقيا، إلا أنه دائما ما توجد فرضية توبة الناس إلى الحق مع أن التوبة لها أعراض وتأخذ وقتا للمراجعة، ولكنك لا تستطيع أن تشق صدور الناس. إلا أن المستفز هو أن مجموعات المنتفعين تلك لم تجد سوى قضية مياه النيل كى «تستولد» نفسها سياسيا للمواءمة مع أجواء الثورة، ولكى تثبت انتماءها لهذا المد الجديد.

فجأة، بدأ العديد من تلك الشخصيات في الحديث عن عصر جديد يأخذ فيه الشعب زمام المبادرة بنفسه وذلك بالتصدى للدفاع عن حصة مصر من مياه النيل، وأنهم هم الذين سيمثلون الشعب في تلك المهمة. وبسرعة غريبة تم تشكيل وفد كبير وصف بـ«وفد الدبلوماسية الشعبية» حيث قام هذا الوفد بجولة في عدد من دول حوض النيل وعلى رأسها إثيوبيا وأوغندا، والأولى هي دولة المنبع الرئيسية التي يصلنا من خلالها عبر النيل الأزرق 86% من المياه، في حين أن الثانية هي دولة المنبع الرئيسية في المنابع الاستوائية التي يصلنا منها عبر النيل الأبيض حوالى 14% من المياه.

عندما سمعت الخبر استشعرت قلقا شديدا، خاصة أنه ليس هكذا تورد الإبل، وبالتأكيد ليس هكذا تورد مصائر الأمم. وعندما علمت أسماء الشخصيات التي سيضمها الوفد، استشعرت غضبا شديدا، فلم يضم الوفد شخصا واحدا له خلفية معقولة- ولا أقول متخصصا- حول أي من جوانب هذه القضية المصيرية سواء كانت القانونية أوالسياسية أوالبيئية.

في دولة تدار بنظام شديد المركزية مثل مصر، لا يمكن أن يحدث ذلك من دون موافقة صاحب السلطة، وفى ذلك الوقت كان المجلس العسكرى. تحدثت في عدد من البرامج التليفزيونية- التليفزيون الرسمى للدولة- منتقدا بشدة السماح بمثل هذا العبث، وبأن القضية أخطر من أن تترك لغير المتخصصين والمسؤولين ممن يمكن ضمان علمهم، بالإضافة إلى ضبط آدائهم، والأهم إمكانية محاسبتهم.

الغريب، أن كثيرا من المتخصصين والمسؤولين التزموا الصمت، وآخرين هتفوا لهذه الوفود الشعبية باعتبار أننا دخلنا عصرا جديدا تميزه الحرية، والأغرب أن كثيرا ممن تشدقوا بهذه المقولة كانوا أبعد الناس عن الانتصار للحرية قبل ثورة 25 يناير، ناهيك عن الفترة التي تلت العام الأول من عمرها.

الشاهد أن وفود «الدبلوماسية الشعبية» ذهبت وجابت بعض دول المنابع وعادت لكى تبشر المصريين بأنها جاءت بما لم يأت به الأوائل، قاصدين نظام حسنى مبارك. وعلى الفور استقبل وزير الخارجية المصرى تلك الوفود، حيث قام بتكريمها على الإنجاز الذي قامت به. وعلم المصريون من وسائل الإعلام- التي أحتفت أيما احتفاء بالدبلوماسيين الشعبيين- أن الوفود اجتمعت مع رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل ميليس زيناوى وأعضاء البرلمان وعدد من الوزراء، بالإضافة إلى اجتماعهم بالرئيس الأوغندى يورى موسيفينى.

وأوضحت الوفود أنها تأكدت من حسن نوايا البلدين- خاصة إثيوبيا- وأن كل ما يثار حول مواصفات سد النهضة من أنه سينتقص بعنف من حصة مصر ليس حقيقيا، ومن أن هذه الأكاذيب كانت من بنات خيال نظام مبارك، الذي كان حتى تلك الفترة هو نفس النظام الذي يحكم مصر متمثلا في المجلس العسكرى الذي عينه مبارك. ومرة أخرى، نستعين بحسن نوايا إثيوبيا، وهو المبدأ الذي رفضه الرئيس عبدالفتاح السيسى، ولكن رفضه انسحب فقط على الشأن الداخلى، وفيما يتعلق بقوى وتيارات تختلف رؤاها ومناهجها لتحقيق مصالح الوطن.

إلا إننى عندما رأيت وقرأت ما دار خلال هذه الجولات أصبت بالرعب والغثيان في آن واحد. فوجئت على سبيل المثال برئيس الوزراء الإثيوبيى الراحل زيناوى وهو يتحدث لأعضاء الوفد الشعبى «الدبلوماسى» المصرى قائلا: «لم تكن هناك مشكلة في أي وقت من الأوقات، وإنما كانت المشكلة مفتعلة من جانب (الشيطان الأكبر) اللواء عمر سليمان، وزير المخابرات المصرى و(الشيطان الأصغر) حسنى مبارك».

إلا أن الصدمة تمثلت في عاصفة التصفيق من جانب أعضاء الوفد المصرى ردا على هذه المقولة. أحسست بأننى هزمت شخصيا عندما سمعت كلمات زيناوى، ولكن الانكسار حدث بمجرد سماعى تصفيق المصريين، ناهيك عن استشرافى ضياع قضية مصر.

ففى سبيل إثبات «ثوريتهم» الكاذبة المزيفة، صفق هؤلاء المصريون لزيناوى لكى يؤكدوا أن بلدهم تحت مبارك كانت تعانى من مرض الرهاب، وأنها كانت مسكونة بهلاوس انقطاع المياه. أما القضية المصيرية، فلم يهتم بها أحد، المهم كان أن يغتسل هؤلاء «المصريون»- في تلك اللحظات التي ظنوها حرجة في مستقبلهم السياسى- من نظام كانوا جزء أصيلا منه، والبعض كان يمثل الجزء الأكثر إظلاما وظلما منه.

وأتذكر أننى ظهرت مع أحد أبرز أعضاء الوفد- وهو حاليا عضو بارز في برلمان 2016- والذى شارك في تنظيم الجولة وجعل يستعرض علاقاته مع الرئيس يورى موسيفنى، وكيف أنه وعده بأنه سيتحدث لصديقه رئيس الوزراء الإثيوبى، ومن أن المشكلة تكمن في أنه لا توجد مشكلة، وترهات أخرى كثيرة.

وحمل «الرجل» اللواء عمر سليمان كامل مسؤولية تدهور ملف المياه مع إثيوبيا، بالرغم من علمى أنه كان يمتهن كرامته أمام مساعدى سليمان من أجل أن يحظى بـ «شرف» لقاء مع «البطل» كما كان يحلو له أن يصف وزير المخابرات الراحل.

بدأت الرد بأن قلت: «بالرغم من تحفظاتى العديدة على سياسات وبالأحرى (لا سياسات) الرئيس السابق مبارك، إلا إننى أرفض تماما- بداية ومن حيث المبدأ- السماح لأى رئيس أجنبى أن يهينه مثل هذه الإهانة... قد أؤيد محاكمته والحكم عليه بشرط أن تكون محاكمة عادلة، ولكن أن يهان، وخاصة من غريب، فهذا ما لن اسمح به، وهو ما ينطبق على اللواء عمر سليمان... فنحن المصريين كفيلون بهما وبغيرهما».

وأردفت مخاطبا النائب البرلمانى السابق والحالى قائلا: «كيف طاوعك عقلك بأن تصدق مثل هذه الأكاذيب بأنه لا توجد كارثة، ومن أن كل ذلك كان رهابا يصنعه مبارك وأعوانه لتخويف الشعب المصرى؟ وهل عندما هدد العديد من أباطرة إثيوبيا في أزمنة الخديو إسماعيل وتوفيق ثم عباس حلمى الثانى بتحويل مجرى النيل عن مصر كان لدينا مبارك أو سليمان؟ للأسف، أنتم أضعفتم مركز مصر بهذا العبث».

ثار الرجل واتهمنى بأننى لا أنتمى لثورة الـ 25 من يناير، وهو الذي كان وأمثاله يرمون ثوارها بالخيانة، وذلك قبل أن يتحولوا ثوارا بعد تنحى مبارك، ثم فيما بعد عادوا مرة أخرى ليسكنوا جلودهم الأصلية الملساء لكى يصفوا 25 يناير بالمؤامرة والخيانة. وزاد الرجل بأن رمانى بأننى- وأنا الذي كثيرا ما انتقدت آداء نظام مبارك علانية- أنتمى إلى الفلول، باختصار، اتهمنى الرجل بكل ما يعيبه وأمثاله.

وبعيدا عن ردى الحاسم عليه الذي ألجمه وجعله يهذى بمثل هذه الترهات، فإن السؤال المهم هو: كيف سمحت حكومة المجلس العسكرى بهذا الهراء؟ وماذا كان الهدف من ورائه؟ هل كان الهدف محاولة تفريخ «ثوار» مصنوعين على عين المجلس العسكرى الحاكم وتابعين له؟ ولكن هل يمكن أن يتم ذلك على حساب قضية مصير لا تحتمل هذرا؟

بعد شهرين من تلك الجولات الشعبية العبثية، حدث ما كنت أخشاه. كنت في زيارة عمل للدنمارك وطلبت موعدا مع مسؤولة التمويل الدولى في وزارة الخارجية الدنماركية وكانت هي في نفس الوقت التي تتولى قطاع التمويل في الاتحاد الأوروبى. استهدفت من اللقاء الحديث مع المسؤولة الدنماركية حول خطورة الاستماع لإثيوبيا فقط فيما يتعلق بتمويل أعضاء في الاتحاد لسد النهضة، متجاهلين النتائج الكارثية التي ستحل بدولة المصب مصر. فاجأتنى السيدة بما خشيته، فقد أخرجت لى ملفا به كل ما نشر حول لقاءات وفود «الدبلوماسية الشعبية المصرية» في دولتى إثيوبيا وأوغندا وتأييدهما لترهات مسؤوليها حول أوهام مصرية لا وجود لها على أرض الواقع. وأسقط في يدى!

هل تلك هي نهاية النماذج المرعبة لما أتت عليه مصر الرسمية- ولن أقول الدولة حيث غابت في تلك الأوقات الدولة بمعناها الحقيقي من كونها دولة حارسة لحدودها وموارد شعبها- بحق نفسها وشعبها؟ بالطبع لا، فللحديث بقية، وذلك إذا ما أراد النظام الحالى- إذا افترضنا السيناريو الأفضل أنه لا يعلم- أن يدرك ماذا حدث، وذلك حتى يمنع وقوع الكارثة؟ مرة أخرى، فإن تقليص آثار الكارثة- وهو أقصى ما وصلنا له من طموحات الآن- لن يكون عن طريق ما يملى على صحفيين وإعلاميين من تواهيم وترهات تسارع بوقوع الكارثة وتضاعف من آثارها، ولكنه بإجبار قيادة إثيوبيا على تعديل سلوكها، وهو خيار مازال متاحا، ولكن أتمنى أن تكون القيادة السياسية جاهلة به، فالعكس سيكون جريمة كل العصور وليس فقط القرن الحادى والعشرين.

المقال ينشر نقلا عن موقع هافينغتون بوست عربي