الجريمة فى حق مصر والمصريين

حلمي النمنم الثلاثاء 22-03-2016 21:49

بين دول أوروبا كلها، تحتل علاقة مصر بإيطاليا طابعاً خاصاً وحميمياً، البعض يتصور أن علاقة مصر بفرنسا هى الأكثر عمقاً فى التاريخ، ويتناسون أن علاقة مصر بفرنسا بها بعض المطبات التاريخية وربما العقد، مثل احتلال نابليون لمصر والمذابح التى ارتكبها هو ومن تولى قيادة الحملة من بعده، الجنرال كليبر والجنرال مينو، وكل منهما كان أشد قسوة من نابليون، وفى تاريخ العلاقات بين البلدين، هناك مشاركة فرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 ؛ صحيح أن الصداقة بين البلدين تتجاوز هذه المطبات أو العقد التاريخية، ولكنها تظل فى الذاكرة على الجانبين.

علاقات مصر بإيطاليا تخلو من مثل تلك المطبات أو العقد التاريخية، فى أثناء الحروب الصليبية، ظلت العلاقات التجارية قائمة وقوية بين جنوه والبندقية وغيرها من المدن الإيطالية مع رشيد ودمياط والإسكندرية، وكانت هناك «خانات» أى فنادق مصرية فى الموانئ الإيطالية والعكس صحيح، وظل التجار يروحون ويجيئون بين الموانئ المصرية والإيطالية، رغم الحروب التى كانت قائمة.

وماتزال بعض المصادر والدراسات والوثائق الإيطالية تقطع بأن فكرة حفر قناة تربط البحرين الأبيض والأحمر، تعود إلى مهندسين وتجار إيطاليين فى القرن السادس عشر، وأن الفكرة عرضت على السلطان قنصوة الغورى، وأن هذا المشروع كان الرد المصرى– الإيطالى على اتجاه التجارة العالمية من البحر الأحمر وطريق السويس إلى رأس الرجاء الصالح، ثم جاء الغزو العثمانى لمصر ليوقف كل ذلك، وظلت الفكرة نائمة فى الأدراج، حتى جاء ديليسبس وأقنع بها الوالى محمد سعيد، وأتذكر جيداً أن هناك فريقاً من الباحثين الإيطاليين طلبوا الحضور إلى معرض القاهرة الدولى للكتاب سنة 2010 لعرض ما لديهم فى هذا الصدد، وعموماً هناك كتاب ضخم تُرجم فى القاهرة، الصيف الماضى به الكثير من المعلومات والوقائع فى هذا الملف.

وفى العصر الحديث، كانت إيطاليا أول بلد أوروبى اتجه إليه محمد على فى التعاون وإرسال البعثات، وظلت العلاقات قوية بين البلدين، حتى إن الخديو إسماعيل اختار إيطاليا منفاه بعد أن عُزل عن عرش مصر سنة 1879، وتربى هناك ابنه الأمير أحمد فؤاد، وتعلم وخدم فى الجيش الإيطالى، وصار فيما بعد سلطاناً ثم ملكاً، أما ابنه الملك فاروق الأول، فقد اختار هو الآخر إيطاليا لتكون منفاه الأخير، وفضلها على كل بلاد أوروبا التى كانت مفتوحة أمامه، وفى الحرب العالمية الثانية، كان بالإسكندرية جالية إيطالية ضخمة العدد والقوة.

وفى مصر الجمهورية، ظلت العلاقة بين مصر وإيطاليا لها طابعها المميز، ولما قامت ثورة 30 يونيه، كان موقف إيطاليا من تلك الثورة واضحاً وحاسماً فى القارة الأوروبية، تحديداً منطقة أوروبا الغربية، ساندت إيطاليا اختيار الشعب المصرى واحترمت رغباته، ومن ثم فإن حادث مقتل الشاب الإيطالى «باولو ريجينى» على هذا النحو مقصود به ضرب هذه العلاقة، وحرمان مصر من سند أوروبى قوى.

دعك الآن، من مقولة أن أجهزة الأمن المصرية تورطت فى قتله، الأمور ليست بهذه البساطة، والأجهزة المصرية ليست بهذه الفجاجة والبلاهة، فضلاً عن أنه لا يوجد مبرر لدى الأجهزة المصرية لذلك، شاب يُعد رسالة علمية ويريد أن ينتقد الأوضاع السياسية فى مصر ويسعى لإجراء مقابلات شخصية مع مواطنين يساندون ويدعمون رأيه، هناك عشرات الدارسين المصريين يفعلون أكثر من ذلك فى رسائلهم العلمية، لكن هذه الرسائل توضع على أرفف المكتبات، وبعضها ينشر فى كتب، والنقد الشديد واضح فيها، أما الدراسون الأجانب، فهم غالباً ينطلقون من خلفيات ثقافية وفكرية تقودهم حتماً إلى توجيه كثير من الانتقادات للأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية المصرية، آخر ما قرأته فى هذا الصدد قبل أسبوع، لباحثة أوروبية، عاشت فى مصر سنوات الثمانينيات، ثم جاءت مصر عقب ثورة 25 يناير وعقب ثورة 30 يونية، وتعلن استياءها أنه رغم ثورتين كبيرتين فى مصر مازالت مصر ترفض منح المثليين جنسياً «حقوقهم»!!.

هو إذا ليس حالة غريبة ولا حالة مخيفة، تستدعى من أجهزة الأمن أو الجهات القانونية التدخل ضده بأى شكل من الأشكال، من يقرأ الصحف المصرية خاصة الرسمية منها، يجدها مليئة بالانتقادات والمآخذ السياسية وبأسلوب بالغ الحدة فى كثير من الأحيان.

ولا أظن أن العملية تمت بهدف الانتقام، من ينتقم يقتل بسرعة وعنف ويخفى الجثة، لكن علامات التعذيب التى وجدت على جسد «باولو» تقول إن القاتل محترف، وإنه تعمد إبراز جوانب التعذيب ليلصقها بالأجهزة الرسمية، وإنه كان هناك تعمد إلقاء الجثة فى الطريق العام، فى ذكرى ثورة 25 يناير، هدف الفاعل أن ينقل رسالة سامة إلى الإيطاليين لضرب تحالفها مع مصر، ومن ثم الإضرار بسمعة مصر عالمياً، خاصة أن قضايا التعذيب حتى القتل مدانة عالمياً وإنسانياً، وتمثل أبلغ إساءة لمن تصدر منه أو يتهم بارتكابها، وإذا كانت عملية الطائرة الروسية أضرت بمصر سياحياً، ومن ثم اقتصادياً، وكان يمكن أن يمتد الضرر إلى العلاقات المصرية الروسية، فالواضح أننا بإزاء عملية من هذا النوع مع إيطاليا وأوروبا كلها.

ما حدث مع «باولو ريجينى» جريمة كبرى فى حق مصر والمصريين أولاً، ومصاب مصرى فى المقام الأول، هى جريمة بشعة بكل المعايير، لكن علينا أن نتحلى بالصبر ونثق أن الجناة سوف ينكشفون، وهناك جريمة اغتيال الشهيد هشام بركات درساً ونموذجاً، حيث قضت أجهزة الأمن حوالى تسعة أشهر للوصول إلى الجناة.