شاعر الحى!!

أحمد الجمال الثلاثاء 22-03-2016 21:52

فى ألمانيا ومن قبلها فى أستراليا كانت وأظنها ستبقى تجليات القوة الناعمة للمحروسة.. تلك القوة التى تساهم فى تعظيمها «أسلحة مشتركة».. الموسيقى والغناء.. التجويد وقراءة القرآن.. الرهبنة والتفرد اللاهوتى والإنشاد الكنسى.. التصوف والإنشاد الصوفى.. السينما والمسرح والفنون الشعبية.. الأوبرا وأكاديمية الفنون.. ثم حدث عن العلوم والبحث العلمى فى كل المجالات.. رغم بؤس الواقع وفقر الإمكانيات المادية!

فى ألمانيا ومن قبلها فى أستراليا، أطل ابن مصر العبقرى الأستاذ الدكتور جمال مصطفى سعيد الجراح العالمى وصاحب العمليات والأبحاث التى تحمل اسمه فى الدوريات والمراجع الطبية العالمية العريقة، وكانت إطلالته لصالح الفقراء فى الحزام الممتد من باكستان إلى موريتانيا، إذ قدم بحثا عمليا متكاملا عن التركيب الجينى للبكتيريا التى تصيب الملايين، وكان علاجها يعتمد على مضادات حيوية باهظة الثمن، وتوصل فى بحثه وهو متصل باقتصادات الدواء إلى أن جينات البكتيريا فى منطقتنا التى يجوز أن نسميها بالشرق الأوسط الكبير لها تكوينها غير المتشابه مع مثيلتها فى أوروبا، وأن استخدام المضاد الحيوى الأرخص فى السعر هو المناسب لهذه البكتيريا!

رجل عالم إنسان يحمل فقراء وطنه على كتفه وكأنهم صليب خلاصه وخلاصهم، ويبذل من ذهنه وعلمه ووقته وماله ما لا يبذله كثيرون فى مصر لديهم من الأموال تلال متلتلة يكتنزونها اللهم إلا «الفكة» التى يذرونها كالرماد فى العيون ليقال إنهم كرام أجياد ينفقون على الأدباء وطلاب العلم!

فى ألمانيا ذهب الدكتور جمال مصطفى ليلقى بحثه العلمى، ولكنه وأمام جمهور حاشد من الألمان قرر أن يتجاوز التخصص إلى ما يعتقد هو أنه لا يقل عن التخصص أهمية.. حيث يرى أن تقديم مصر الحضارة والثقافة والعلم والدور بصورتها الحقيقية اللائقة أمر يرقى إلى فرض العين كالصلاة والصيام والزكاة.. ولم لا؟.. وهو من المدرسة العلمية والثقافية التى تجد الأمر الإلهى «اقرأ» و«تدبروا» و«تفكروا» و«سيروا» و«انظروا» أنه لا يقل وجوبا عن «صلوا» و«صوموا» و«حجوا» و«زكوا»!!، وأن من لا يعمل عقله فى القراءة والتفكر والتدبر والنظر منكر لما هو معلوم من الدين!!

أمام جمهور الألمان الحاضرين وبعد انتهاء الجزء الأول الخاص بالبكتيريا، أخرج الرجل شرائح لعرضها وفيها رصد بالصور والمعلومات للأبعاد الحضارية والثقافية المصرية، وللأعلام الرموز العالمين من أبنائها الذين نال بعضهم نوبل، وتبوأ بعضهم أعلى المواقع كأمانة الأمم المتحدة.. ثم المسيرة الطويلة من المصريين القدماء فى مختلف الفروع طبا وهندسة وفلكا، ناهيك عن مسيرة الإبداع الإيمانى عبر مصر القديمة ومصر المسيحية ومصر الإسلامية وهلم جرا.

ولعل كثيرين لا يفطنون إلى أن عرض الأبعاد الحضارية والثقافية للتكوين المصرى يأخذ مصداقية مضاعفة إذا جاء مقترنا بتقديم تفوق مصرى لعالم فى الطب، أمام جمهور يقدس العلم والبحث العلمى ويجد فى العلماء كنوزا نادرة، وهذا ما يفتح أمامنا الباب للتفكير فى تعميم هذا المنهج المتكامل الذى ينتهجه الأستاذ الدكتور جمال مصطفى.

إننى أتصور وعبر معرفتى بالرجل أن الإنسان كل متكامل لا يتجزأ ولا يغنيه التجمل إذا عمد إليه لإخفاء نواقصه، ولا لتعظيم اكتمالاته.. وأعنى بذلك أن من يبدأ من نقطة «المحلية»، ويجتهد فى نطاق بلده، ويتفوق، ويتقدم ويصبح رائدا فى مجاله، لابد وحتما يصل إلى العالمية وتفسح له المحافل الدولية المحترمة مكانا يليق به.. وها نحن أمام نموذج نذر جهده ووقته وعلمه وماله لخدمة وطنه، فجمع بين الأستاذية بالجامعة والبحث فى المعامل والعلاج فى المشافى مع جرعة اهتمام زائدة للفقراء والمحتاجين وبين الاهتمام المكثف بالقضايا العامة التى تمسك بتلابيب الوطن، ولذلك أنشأ ما سماه «صالون الجراح الثقافى» وهو تجمع إنسانى يضم خلقا من مختلف التخصصات ومختلف درجات التعليم والثقافة والمستوى الاجتماعى، وتنعقد جلساته دوريا ليناقش عبر محاضرين متخصصين القضايا المطروحة على الساحة بغير أى استغراق فى المسائل الدينية والسياسية، أى بالابتعاد عما يمكن أن يفرق أكثر مما يجمع.

إننا أيضا أمام نموذج لما سبق أن كتب فيه كثيرون منهم كاتب هذه السطور، وهو القدرة الدائمة على تجسير الفجوات بين عدة مستويات، ومنها الفجوة بين العالم الأكاديمى والتقنى المشغول بالعلم والبحث العلمى وبين المفكر السياسى والاجتماعى وأيضا الممارس فى الأحزاب والتنظيمات.. ذلك أن ما تفتقر إليه مصر وبشدة هو تكامل التخصصات والخبرات وتواصل الكفاءات بما يجعل العمل العام أقرب إلى نوتة موسيقية حافلة بالجمل الموسيقية لعشرات الآلات، ولكن اللحن يخرج عذبا ممتعا فى النهاية.

تحية لعالم مصرى جليل هو الدكتور جمال مصطفى سعيد الذى لم يفت فى عضده ولم يثبط همته صدق المثلين: «لا كرامة لنبى فى وطنه» و«شاعر الحى لا يطرب»!

a_algammal@yahoo.co.uk