«قواتكم المسلحة»

إبراهيم الجارحي الإثنين 21-03-2016 16:24

وكما كان التدخل الروسي في سوريا مفاجئا ومحيرا، جاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ببدء الانسحاب من سوريا مفاجئا ومحيرا أيضا، ربما بشكل أكبر بشكل مضاعف من قرار التدخل نفسه.

المفاجأة الأكبر بعد قرار الانسحاب هو البدء في تنفيذ الانسحاب، وهو أمر لم يكن المراقبون يتوقعون التزام روسيا به، على اعتبار أنه قرار تكتيكي لا أكثر جاء في وقت مبكر من وجهة نظر كثيرين، ولا يعني بالضرورة أن روسيا ستنسحب بالفعل.

وأرفق بوتين قرار الانسحاب بتصريح لا يخلو من الجلافة عندما قال إن بلاده جربت ما يكفي من السلاح في سوريا، وإن جيشه لن ينفق المزيد من الوقت والمال على مزيد من «المناورات».

وبعد أن حول بوتين الأراضي والأجواء والمياه الإقليمية السورية إلى معرض مفتوح لترسانته الحربية، وبعد نجاحه في عقد عدد كبير من صفقات السلاح مع دول في الشرق الأوسط لشراء طائرات وقطع بحرية، بدا وكأن الرئيس الروسي يوجه رسالته الفجة تلك إلى السوريين وغيرهم قائلا لهم إن البلاد التي تواجه التفتيت، وإن البلاد التي تتنازعها المؤامرات الدولية، يجب ألا تعتمد على قوة أجنبية لتحقق لها الاستقلال والوحدة والأمن، وإن الضمانة الأكيدة لبقاء أمة في هذه الظروف هو أن يكون لها جيشها الوطني القادر على حماية مقدراتها.

بالطبع لن تتخلى روسيا عن نظام الأسد، حتى وإن تخلت عن شخص الأسد نفسه، فهي ستحفظ له سيطرة على الشبكة الحضرية التي تضم العاصمة والمدن الرئيسية حتى لا تكون معركته في سوريا معركة الوجود من عدمه، لكنها بالطبع لن تتورط في حرب طويلة مع الجماعات المسلحة التي تدعمها دول الجوار بالمال والسلاح والدوافع، فهذه مهمة الجيش السوري الصعبة.

وبالطبع لن ترفع روسيا ولايتها الجوية عن السماء السورية، سواء بالمراقبة أو الدفاع أو الهجوم، فهذه مسألة لها أهميتها الاستراتيجية التي لم تقرر موسكو تركها بعد، لكن هذه الولاية الجوية لا تستهدف تأمين المجال السوري كي يعيش الشعب السوري فيه آمنا هادئا مطمئنا، وإنما هدفه ألا تذهب هذه البقعة المهمة بالنسبة لروسيا إلى خصم استراتيجي لروسيا، أما مسألة أمن وسلامة وسلام السوريين فهي قضية لن يدافع عنها أجنبي إلا بمقدار ما يخدم دفاعه مصلحته.

من الممكن أن تتدخل قوة أجنبية في بلد لتحقق هدفا هو في الأصل من أهداف هذه القوة الأجنبية، لكنه يتقاطع بشكل ما مع أهداف أبناء هذا البلد أو بعض أبنائه ويخدم مصالحهم، كالتخلص من صدام حسين أو القذافي أو حكم طالبان، لكن تقاطع المصالح لا يعني تطابقها بالضرورة، فالتحالف وكالة لا تلغي الواجب الأصيل على أبناء الدول في الدفاع عن سيادتها واستقلالها ووحدها.

انتهت وحدة العراق وانتهى إلى الأبد سلامه الاجتماعي عندما تبخرت القوات المسلحة العراقية من ميدان المعركة لا عندما فر صدام حسين، ولن تنتهي وحدة سوريا إلا بتفكيك القوات المسلحة السورية لا بإسقاط الأسد.

قد لا تصيب رسالة بوتين الخفية هوى عند كثيرين تغيظهم عبارة «أحسن من سوريا والعراق»، لكنها الحقيقة ولو لم تعجب أحدا، فالدولة التي تقع في منطقة كمنطقتنا، في عصر كعصرنا، في عالم كعالمنا، مضطرة أن تعيش طول الوقت على حدود الخط الأخير، وأمام حائط البقاء الأخير، وهو قواتها المسلحة.

هذه رسالة يجب أن توقظ الجميع من غفلة العدوان الفكري والفلسفي والشعوري على القوات المسلحة بسبب مواقف سياسية اتخذها الجيش بما رآه يخدم المصلحة الوطنية، فهي غفلة كقضم الأسد لمخالبه التي تمثل له ضمانة البقاء مهما كانت الظروف، وهي قضمة غبية أيا كانت أسبابها.

تأملوا الدرس الذي قدمه بوتين بانسحاب قوات بلاده من سوريا قبل حل أزمتها، وأدركوا كنهه حتى لو جاءكم بهذا القدر من جفاف وصلف، فالدرس أقيم ألف مرة وأهم من مظهره وصورته.