سناء البيسى: نصل فى الصحافة إلى المنصب المرموق وفجأة شلوت اطلع بره (الحلقة الأخيرة)

كتب: أمل سرور الإثنين 18-10-2010 14:50

مفردات وبديهيات فى حياتنا نمر عليها مرور الكرام، لا تعكس لدينا سوى مدلولها اللفظى المباشر، ومساحة النطق بها فى ثوان، لكنها لدى سناء البيسى عوالم وأبعاد وتاريخ وجذور وأصول وفلسفة ومنطق وتداعٍ وكتب وصفحات.


الكلمة عندها لها أرضية وسقف وجدران وقوائم أساس ونوافذ ومنافذ وأبواب، الاسم فى قلمها يجر الفعل وينصب المفعول به ويضرب المفعول فيه ويفتح ضروب الحال والمحال، ويجر من خلفه المضاف إليه للجنة أو خلف قضبان الاتهام.


الحرف تقرؤه سناء بعين التقديس والتبجيل والتكريم والتفعيل والتخريج فى أبجدية صاغتها بمعرفتها حتى أصبحت أسلوباً مميزاً بها، قال عنه الكاتب الأديب الأستاذ أنيس منصور: «إنها من طراز خاص.. أسلوبها خاص.. متميز.. ليس له نظير فى الأدب العربى المعاصر.. وإذا قرأته لن تخطئ فى أن تعرف من أين جاء، ومن هى صاحبة التوقيع فى النهاية».


تحضرنى كلمات ليست كالكلمات أطرحها أمام سناء البيسى على هيئة سؤال لأسمع من «الأستاذة» تغريدها فى إجابات ليست كالإجابات، حتى تمنيت لو أنها تقوم وحدها بتفسير قاموس العربية من جديد تبعاً لرؤيتها وأسلوبها.. أسألها عن الباب والبلكونة؟.. عن أصحاب الكراسى وأصحاب القلم؟.. عن الحب؟.. عن الزمن الجميل؟.. عن القرار بالعزل وقرار الاعتزال؟.. عما يجوز وما لا يجوز؟.. عن ليلة العملية؟.. عن التوحد والوحدة؟.. عن التعليم والشباب؟.. عن الكلام الساكت والكلام المباح.. عن مصر يا ولاد.. إلخ.. إلخ.. إلخ.


■ ليلة جراحة القلب فى كليفلاند.. عفاريتها وأضغاثها وناسها؟


- فحوصات.. هيئة أمم توقع الكشوفات.. طبيب شبيه للمهاتما وزميله مبعوث للخمينى، وفريق فحص يابانى ودارس طب باكستانى.. ومصرى.. ووجه أسود مبتسم وملامح بيضاء صارمة واستراحات انتظار ومصير كيانى فيه مجرد رقم ينادون عليه.. حلقات فيها أنا بطلة بخرقة زرقاء يادوب الأربطة فيها تدارى عريى الإلزامى، والكومبارس طبيب نسوى وخبير أسنان وطبيبة رئات وباحث فى أم التلافيف وكونسلتو للقولون واستشارى لأبوالسبع لفات.. وأخيراً.. يكشف طبيب القلب.. قال لى يا مصرية قلبك مشرخ ومطلوب لإنقاذه شق ومزع ونزع وتسليك وتبديل وتقطيع وترقيع.. نلتقى فى الغد مع التعهد بأنك فوضت أمرك لنا مع ذكر اسم الشخص الذى سيقوم بالاستلام فيما إذا.. أنا.. أنا فوضت أمرى لربى، وابنى روح أمه مثلما حملنى إليكم هنا من بلاد الصبر والملاحات هو من سيقوم بتسلمى منكم سواء على كرسى أو على ظهرى.. وأتت ليلة العملية.. ليلة انتظار الوحش.. ليلة مهرجان الكوابيس وشطحات الخيال والخبال وعربدة الأبالسة.. ليلة التل فيها اختل.. ليلة الشياط.. ليلة العياط.. ليلة تعود فيها لرحم أمك.. ليلة تتمنى أن لم تكن، ولا كان لك كيان، ولا فى الأجنة دخلت فى أى طور، ولا من الأصل كان هناك نطفة.. ليلة الاسترحام والاستغفار.. ليلة الغاشية ولو كنتم فى بروج مشيدة.. ليلة ياريت وياريت.. ليلة الحسرة واشمعنى أنا يا ربى.. ليلة بكائك على البكاء عليك.. ليلة ليس فيها أمى ولا عمى ولا أمنى.. ليلة ضيوفك فيها دراكولا وأبو رجل مسلوخة والشقيقتان ريا وسكينة.. ليلة تنام فيها فى بطن الحوت ولست بالنبى يونس.. ليلة مصرع الزغاريد وهوجة الآهات.. ليلة خيال المآتة وغراب البين.. ليلة ختان البنية ومصرع الحسين.. ليلة تصعب فيها على روحك!!


■ الأمومة وغيبة الأولاد؟


- مقدرة الأعذار وإن كان علينا فعلينا الاحتمال والغايب حجته معاه، وما بين الطيبين حساب، وما بين الأولاد وأمهم ما حد يتدخل، وإن كانت كل رعشة عقرب ترج فى القلب زلزال، وكل ليل فى بعدهم مالوش آخر، وكل شمس طالعة مالها لزوم، وكل طير يغرد وحده من غير ما حد يسمعه.. وياريتها دامت أيام.. أيام ما كانوا صغار وكنت أنا الهدف والمآل وقبلة الانتظار.


العمر انقضى فى الانتظار لغاية لما القمر منهم يهل من غادى أو من الناحية دى وتلامس خطوته عتبة الدار.. بيتك يا عينى ومطرحك وحضن الانتظار وأنا أمك يا واد فاكر ولا نسيت أمك يا واد؟!!.. حبيبى يدخل حضنى أتشممه أشرب عرقه أمسح على ذقنه أطمئن على طابع الحسن لسه فى مكان الحسن؟!


ويشكّنى شنبه خلاص ابن إمبارح بقى له شنب يقف عليه الصقر ويشكّنى ساعة اللقا فى الحضن، وأزيح شعره للوراء وأملس على جبينه خايفة على الجبين اللجين تغزوه عبسة نكد أو خط إجهاد، وأخلع له نظارته وأزرع عينى فى عينه وأخطف نظرته لنظرى.. يا نضرى.. أحمل كفه الكبيرة اللى كانت لغاية إمبارح صغيرة، أهدهده فى صدرى، أقرمشه بين الضروس، أحطة كمادات للقلب تسحب لهيب الشوق.. أنا.. أنا يا ولاد كبرت خلاص وقلعتى اندكت وقوتى انهدت وقشرتى وقعت وخَرْجتى قرّبت ومحتاجة السؤال.


أنا.. أنا اللى كبرت وربيت على الصراط والمثل وتعاليم الدين القويم أيام ما كانت أوامرى قانون منزل تخرج ما تخرجشى ممنوعة المناقشة.. أيام ما كانت «فلا تقل لهما أف» هى الدستور والنظام.. أيام ما كان الابن قول المصطفى «أمك ثم أمك ثم أمك» دون اعتراض.. ويا ريتها دامت أيام.. أيام ما كانوا صغار.. وياريت الحلم يصبح حقيقة أطوف فيها بالكعبة مع الغالى بملابس الإحرام.. اللهم إنى وفدت إليك ووقفت بين يديك، وقد انقطع الرجاء إلا منك، وأغلقت الأبواب إلا بابك، فلا تكلنى لأحد سواك يا أكرم من سُئِل وأجود من أعطى.


■ بين سطورك كلمات بالعامية فهل ينضب المعين ساعات من الفصحى؟


- قد تستدعى العامية الراقية، ولكن فى مكانها الصحيح إذا ما اقتضى الحال، وليس من قبيل التبسط والاستظراف، وإنما من باب الشىء لزوم الشىء، كذكر مثل شعبى أو لفظة متداولة مثل «الموبايل» أو «المول» أو «الكاريزما».. والمعروف أن القرآن الكريم سبع قراءات تبعاً للهجات القبائل المختلفة فى الجزيرة العربية.. وكثيراً ما تبدو بعض الكلمات عامية إلا أنها فصحى وسليمة، لكنها سرت على لسان العوام وانتشرت بين الناس، فمثلاً كلمة «البرطمة» بمعنى التعليق غيظاً أصلها من الفصحى، فيقال برطم الرجل إذا ما غضب.. ونقول صاحبك «بوّق» فينا فهى من الفصحى، فالبوق فى القاموس هو الكذب والظلم والباطل.. وكلمة «الدوشة» فصحى،


 فالدوش ظلمة فى البصر تسبب ألماً فى الرأس.. وكلمة «رطرط» فصحى، فالرطيط هو الجلبة والصياح.. وكلمة «فطّمنى» أصلها فطنى والفطنة كالفهم.. ونقول فلان «بيقرّق» فصحى بمعنى سخر فى حديثه وضحكه.. وكلمة «اللبلب» جاء على لسان العرب أن اللبلبلة صوت لحس الشاة لوليدها.. ولفظة «الملاوعة» فصيحة ومشتقة من اللوعة فى اللسان، نتيجة الحزن ووجع القلب.. ومجرد الفتحة أو الكسرة أو الضمة تجعل هناك فارقاً فى الكلام ما بين السماء والأرض، فكلمة الهناء بفتح الَهاء بمعنى السعادة، والِهناء بكسر الهاء بمعنى الزفت والقطران، والمناخ بفتح الميم حالة الجو، وبضم الميم المنُاخ بمعنى مكان راحة الإبل، و«جَناح» بفتح الجيم بمعنى جناح الطائر، وجُناح بالضمة بمعنى الذنب والإثم، وهناك فارق فى الهم والغم اللذين نستخدمهما فى العامية والفصحى، فالأول بمعنى التوجس لقدوم المصيبة، والثانى أن المصيبة وقعت خلاص وكان ما كان .


■ الشعور بالحرج أين ومتى تعانين الآن منه؟


- عندما أصطادها تلك النظرة الملعونة إذا ما تطرق الحديث إلى مشروعاتى المستقبلية ككتابة رواية جديدة أو إقامة معرض جديد، أو تغيير كسوة الصالون، أو إعادة طلاء المطبخ، أو عمل ريجيم لرشاقتى وليس لصحتى، أو الشروع فى رحلة ترفيهية وليس للحج أو قضاء العمرة، أو الوقوع فى زلة لسان أطلق فيها اسم «البنات» على الصديقات، أو الإشارة لأحدهم بأنه زودها حبتين، أو الجلوس على جنب للكلام فى التليفون.. وكل ما فات نقطة فى بحر الحرج عندما يلفنى من جراء نظرة الشاب أو الشابة من دول إذا ما أتى الحديث على ذكر الحب ولوعته وآلام الهجر وقسوته، فأشارك بوجهة نظرى لألقى دهشة عجب وكأننى القادمة من كهف أهل الكف، وكأن لا موضع ولا وضع لى فى المسألة العاطفية، وكأننى قد شخت قبل هذا، ويجب أن أكون نسياً منسياً، وكأن الانجذاب بين قلبين أمر متوقف عند حيز الثلاثين، وبالكتير أوى أوى عند سور الأربعين، أما فوق ذلك فالأمر مسخرة ونكتة خارجة وتصلب شرايين وقلة قيمة وكرمشة مخ وتوقف نمو وخشونة غضاريف ومراهقة مرتدة وتهاويم كهولة ومشاعر محنطة وصحوة موت وحشرجة ختام!


وهل يعرف الصغار أنهم عندما يداعبوننا بمقولتهم السمجة من قبيل الترفيه على الناس الكبار: «عيشى حياتك يا طنت» أن وقعها على المسامع كمن يقول: «البقية فى حياتك يا طنت».. أنا من أصبحت لا أمثل لهم سوى ماكينة الدعاء المستجاب بحكم أن الجنة تحت أقدامنا نحن الأمهات.. مطلوب منا الدوران بالدعاء فى حالات النجاح وسير العمل والعلاقة مع سيادة المدير والوفاق الزوجى وفاتورة التليفون وسخونة العيل وتسوية وجه صينية البشاميل.. وادعى لى يا طنت ابنى يقبل فى حضانة الكونتيننتال.. واقرئى لى يا خالتو عدية «يس» علشان أحمد يرجع لى تانى.. وشغلى الدعاء يا أمى عايزين لنا قرشين!


■ الزواج بكبير السن؟


- تنصتين إلى جواره لزمان الطرب «وكلنا نحب القمر والقمر بيحب مين»، بينما القمر فى سمائه فى المحاق.. تعيشين فى كنفه الهدوء لكن الداخل يغلى.. يبتزك بكرمه وتعقله واحتوائه، ذلك الابتزاز الصامت للضعاف الذى يجيز لهم التصرف بحياتك منذ وقعت فى قبضة الواد منهم بحكم ورقة شرعية.. تقاسمينه فراش المسنين بكوابيس النوم غير المريح متوسدة ذراع الخيال الجامح خارج نطاق الكوابيس.. تبدين سعيدة، فالسعادة حالة زمنية ونفسية يمر بها الإنسان، وهو قانع قابع.. إنها حلقة بين الطموح والخمول والرضا بواقع نعيشه بغير أن نتوق لموقع آخر فى الحياة، فتلقين بنفسك فى المنفى بعدما يصنع لك الزوج كبير السن من المنفى فردوساً!!


■ والارتباط بالأصغر سناً؟!


- دوامة الحياة معه فى الأسئلة اللامجدية الموجعة.. لماذا أتت به أمه من بعد ما أنجبتك أمك بكثير؟!!.. لماذا تريدين إلى جانبه إيقاف عجلة الزمن وتحنيط الوقت؟!.. لماذا أنت الماضى الذى يجهله وهو الحاضر الذى لا ذاكرة له؟!.. لماذا ينتمى لجيل يثقل عليه حمل أو احتمال أى شىء؟!.. جيل يختصر التاريخ والتراث والآداب والفن والذاكرة فى صفحة على الإنترنت، واسم أو اسمين بالكثير من الزعماء وشعراء العرب.. و.. تكتشفين معه أن الاحتواء والسؤال والاحتضان وتحويطة الاهتمام خارج نطاق الاهتمام.. تكتشفين إلى جانبه أن دوام حال فينوس من المحال، وأن ظله كمثل ظل الحائط، وأن منطق غيرته ليس سوى تسلط وأنانية، وأن القانون لديه خلق ليخترق، وأن الحب عنده لابد أن ترجه لتذكره به، وأن عواطفه تأتى هادرة عند اكتمال البدر، وتنسحب بعيداً للأغوار طالما انحسر المد وانطفأ القمر.. تكتشفين أنه عدو للساعات وعقارب التوقيت، وأن موعداً معك مخترق مسبقاً للقاء صديق له بالمصادفة.. تكتشفين أنه لا يعرف ماذا يريد أو ماذا تريدين أنت.. تكتشفين أن القدر لم ينبهك لوقت ظهورك على المسرح ولا متى يسدل الستار.. تكتشفين أن اللامبالاة قانون يحكم صغير السن.. وتكتشفين أن اللامبالاة موجعة!!


■ ما الفرق بين العزل والاعتزال؟!


- الفارق بينهما بعرض وطول السماء والأرض.. أولاً العزل كان فى القديم وسيلة شرعية لتنظيم النسل، فأصبح فى أزمنتنا الحديثة من الوسائل الشرعية لتنظيم الصحافة.. صحافة المحنة وليست المهنة.. صحافة لا تقوم عليها تقاليد راسخة مهما قيل فيها وعنها من مواثيق وعهود ولوائح.. مهنة محنة ليست كغيرها مهنة، فلا مكان فيها للسن أو للخبرة، وليس هناك من يفرض عليها أن تحقق الراحة والكرامة لمن بذلوا فيها جهداً كبيراً، وأضاعوا عمرهم عليها، فأنت فى الجامعة كمثال إذا ما وصلت إلى منصب الأستاذ لا يستطيع كائن ما كان أن يعيدك فجأة إلى منصب المعيد أو إلى مدرج الطلبة، أو لتقديم صينية القهوة لسيادة العميد، ولكننا فى صحافتنا لا نتهيب من شىء، أو نضع فى عيوننا حصوة ملح، فأنت تصل إلى المنصب المرموق ثم فجأة تجد روحك خاضعاً لشلوت اطلع لى برة..


 فجأة تعود إلى مقاعد صغار المحررين أو حتى من هم تحت التمرين، فلا مكتب ولا جرائد ولا أهلاً بك ولا سهلاً عليك، بل إنك بعد الجهد المرير والعمر الطويل فى خدمة المحنة قد تجد صعوبة بالغة فى نشر كلمتك والتعبير عن نفسك.. إنها مهنة بلا وفاء لأهلها، خاصة بعد سقوطهم فى جب التعب، وحتى لو كانت قوتك لم تزل تهد جبالاً وتستطيع أن تعطى أكثر مما أعطيت، فإنهم بقرار العزل يقوموك من على الأكل.. يقطعوا إيديك يقولوا لك سلم.. يخرموا عينك ويقولوا عندك التانية.. يخيطوا بقك ويقولوا لك اتكلم.. يغسلوا مخك ويقولوا سمعنا رأيك.. يشربوك شربة ديدان وإنت طالب شاى.. يهزروا معاك وإنت بتعيط.. يسحبوا الورقة ويقولوا لك جاوب.. يغتالوا رجولتك ويقولوا لك خلف.. يغلّسوا عليك وإنت مش ناقص!


■ رؤيتك لمستقبل الشباب فى مصر؟


- رافعة راية القلق والأرق على جيلنا الجديد رغم حفظه لكل جديد من خفايا النت والسيديهات، ورغم إدراكه الموسع لجميع موديلات السيارات والساعات والسلاح الأبيض، ورغم استيعابه البحثى المقارن لجميع أجوان الكرة والماتشات على جميع الساحات ودراساته الموسعة فى أصول وجذور جدو ومتعب وأبوتريكة.


وبما أن قطاع الشباب يمثل القوة السكنية الضاربة، فمن حقنا جميعاً أن نقلق عليه، خاصة بعدما انشغل الجميع عنه ليصبح مسؤولية الأمن وحده، فدفء الأسرة دخل الثلاجة، والمدرسة ستون فى المائة من تلاميذها يجلسون على الأرض، والمدرس لا يخاطبهم إلا بأبوك وأمك، والتلميذ بيعزم على المدرس بسيجارة، وقليل ما يلف له واحدة، والدولة غرقانة غلبانة فى الاهتمامات السياسية وأزمة الشفافية والمعركة الانتخابية وواقعة لشوشتها فى خندق الغاز والكهرباء.. ومن هنا تخلى الجميع عن الجيل الجديد.. عن الشباب.. عن الصناعة الثقيلة للوطن ليربيه شارع الهيافة والضلال المقطوع الوصال مع البابا والماما.. شباب الشارع الممنوع عليه الوقفة على الناصية، والتجمع المريب، والحب تحت الشجر أو أسفل الهضبة، وحرية إطلاق ذقنه، أو تجارة على الرصيف.. شباب الحائط السد فى عمل مشروع على القد، فلابد من الحصول على الرخصة التى تتطلب عقد ملكية وعقد إيجار وموافقة مرفق المياه ومرفق إدارة الكهرباء والدفاع المدنى والحريق والآثار والطرق والكبارى والصحة والبيئة والتموين والمحليات وشيخ الحارة وجار الشفعة والورثة والحجر الصحى وحقوق الإنسان وغرفة المعلومات، وأبوك السقا مات، وبادئ ذى بدء موافقة الحى،


 وما أدراك ما الحى الذى ما إن تغادر مبناه إلا وقد دخلت سلك المجاذيب، حيث صرخة التعبير عما أصابك فى بطن الحى تصبح: حى.. حى.. والشباب اكتشف أن لا العشرة على عشرة، ولا درجة الامتياز، ولا دعاء الوالدين، ولا طفح الدردى، ولا الوقوع من الطول والعرض تحقق أى شىء أمام قوة مدفعية تليفون صغير من مامى لأونكل مدحت تأثيره يفوت فى الحديد كما السكين فى الزبد يقلب المتفوق المستحق على الوش التانى يبقى غير مستحق، وغير ذى موضوع وغير ذى حجة وغير ذى اعتراض وغير ذى وجود من أصله... وعلى مسيرة تخلى البيت والمدرسة والدولة عن الشباب فقد تركناهم نهباً لبعض دعاة الفضائيات الجدد حيث لا تركيز على دعامات ديننا الحنيف: العدل والحق والحرية، وإنما أغرقناهم فى الشكليات والسفاسف، مما أصابهم بالإحباط الشديد، فقد أصبحت كل حاجة ذنباً وجريرة، فيعيش الشاب فى متاهة لوم الذات المزمنة التى لا يخلصه منها إلا إحدى الهجرتين..


 هجرة إلى الخارج تتطلب جهداً ومالاً وربما غرقاً على سواحل الغرب، وهجرة للداخل يرتمى من خلالها فى أحضان الجماعات المتطرفة بمفهوم أن الأرض إذا لم تنصفه فالسماء هى المنصف.. والشاب يغدو لقمة سائغة لأمير الجماعة، لأنه خلال سنوات تعليمه كلها كان المدرس فيها بمثابة أمير جماعة.. كيف؟!.. لأنه منذ سنوات التعليم الأولى لا حق للطالب فى السؤال أو المناقشة أو الاختلاف مع حضرة المربى الفاضل، وإذا بدرت منه، فالوصمة بأنه طالب مشاغب لابد من كبته أو طرده أو ينال الصفر، أما الطالب الخانع الهادئ الجالس كما الدُهل يحفظ المنهج كما ينطق به الأستاذ وتقوله الأبلة فهو الجدع الشاطر، ومن هنا يشعر البرعم بأن عقله جريمة، وعلامات الاستفهام ذنب،


والمفروض تسليم عقله مفروشاً، وهكذا فإن سنوات التعليم عندنا تكون بمثابة مشروع متطرف، فالطالب لن تغدو الأمور لديه نسبية بحال من الأحوال فيها الرمادى ودرجات الظلال، وإنما كلها يا أبيض يا أسود، ومثال على ذلك إذا ما سأل التلميذ البرىء حضرة الأستاذ: لماذا شتم الشيخ محمد عبده أحمد عرابى فى بعض كتب التاريخ؟! هنا سوف تقوم القيامة ويا داهية دقى ونهار أبوالواد كوبيا، فالمدرس يهب زاعقاً غاضباً: إنت بتتطاول على الزعيم أحمد عرابى يا كلب؟! ويقعد الكلب يدور على سؤال مختشى يسأل به أحد دعاة الفضائيات من خلف ساتر الشاشة: ما هو يا مولاى حكم من خلعت ملابسها أمام كلب ذكر؟!!