جورج طرابيشى: فى وداع مثقف جسور

جمال أبو الحسن الأحد 20-03-2016 21:28

«منذ ذلك اليوم توطد لدى الاقتناع بأن الموقف من المرأة فى مُجتمعاتنا يُحدد الموقف من العالم بأسره. ومنذ ذلك اليوم ترسخ لدى الاقتناع أكثر من أى يوم سبق بوجوب النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليات، تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السياسية أو الأيديولوجية».

هذا جزء من مقال أراده جورج طرابيشى، المثقف السورى الفحل الذى رحل عن عالمنا منذ أيام، أن يكون مقالاً وداعياً. المقال عنوانه «ست محطات فى حياتى». يروى فيه طرابيشى نزراً يسيراً من سيرته الذاتية. يشرح السبب الذى دفعه لأن يسلك طريق البحث والدرس وحده بعد أن طلق الأيديولوجيات وكفر بالسياسة كوسيلة للتغيير، إذ ماذا ينفع التغيير السياسى إن بقيت العقول على حالها؟ وكيف تحدث النهضة فى العالم المادى، من دون أن تقع أولاً فى عالم الأفهام، فى العقل والتفكير؟

طرابيشى، المولود فى حلب سنة 1937، عاش حياته مهموماً بسؤال رئيسى: كيف نُفكر كعرب ومُسلمين؟ ولماذا نُفكر بالطريقة التى نُفكر بها؟ من هذا السؤال الأصلى تفرعت معضلات أخرى: كيف نكسر هذه الدائرة المُغلقة من الردة الحضارية فتحدث الانطلاقة إلى النهضة؟ لماذا اتسعت الفجوة بيننا وبين الحضارة العالمية؟ كيف نُغلق الفجوة ونُحصِّل الفوات الحضارى الهائل؟

هذا السؤال- سؤال النهضة- شغلنا لأكثر من قرنين. بالتحديد منذ صدمتِنا لمرأى جيش نابليون وحضارته المتفوقة فى العلم والتنظيم. كُل جهادنا الثقافى هو محاولة للإجابة عن هذا السؤال الضخم. إنه سؤال حياتنا. صدم أجيالاً وحير أجيالاً وأصاب أخرى باليأس والقنوط وفقدان الثقة فى الذات. مازال السؤال مُعلقاً على رؤوسنا كعلامة استفهام كُبرى، مخجلة ومُنغصة وباعثة على العار.

جورج طرابيشى مثقفٌ جسور لأنه واجه السؤال مُباشرة. بلا لف ولا دوران. بلا طبطبة أو تلفيق أو ترقيع. إنه فعلٌ نادر فى الثقافة العربية. هذه الثقافة صارت هى ذاتها المشكلة بدلا من أن تجترح الحلول. من هذه النقطة بالتحديد ينطلق طرابيشى فى بناء عمله المعرفى. هو استعار من علم النفس مفهوم «الجرح النرجسى». قال إن المفكرين العرب مجروحون فى «نرجسيتهم الحضارية» بسبب التفوق الغربى الحضارى الماحق. هذا الجُرح يشوِّه عملية التفكير. ردة فعل المثقفين تفاوتت من التخندق للدفاع عن الذات (الموقف السلفى)، إلى محاولة مُراجعة الذات (الموقف التحديثى)، إلى الانسحاق الكامل أمام الآخر (الموقف التغريبى). الغربُ- كما يرى طرابيشى- هو عُقدتنا إذن. إنها عقدة نفسية بالمعنى الفرويدى للكلمة. موقفنا منه يتراوح بين الانبهار بإنجازه المادى، والرفض لقيمه المؤسسة لهذا الإنجاز. إذا أضفت عامل الاستعمار اكتملت أمامك الصورة وتكشفت أبعاد الأزمة.

فى كتابه المؤثر «من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية فى عصر العولمة» مُراجعةٌ لطريقة تفكير مثقفين عرب كبار ورد فعلهم إزاء هذا «الجرح النرجسى». يروى طرابيشى كيف انقلب قاسم أمين، فى سنوات معدودات، من النقيض إلى النقيض. كيف تحول 180 درجة من الدفاع عن وضع المرأة فى الإسلام فى كتابه «المصريون» إلى انتقاد لاذع للذات فى كتاب «تحرير المرأة»، ثم إلى دعوة صريحة إلى التغريب اللامشروط فى كتاب «المرأة الجديدة» الصادر فى 1900. تفسير طرابيشى أن هذه الانقلابات مردها حالة نفسية من الشعور بالعار. المشكلة باختصار أن «الحضارة الغربية الغازية حشرت جميع الحضارات والثقافات المغزوة فى الزاوية الضيقة، فقد أوجدت فى آن واحد حاجة ماسة إلى تثبيت الهوية وإلى التغيير، وهذا بحد ذاته موقف فصامى: إذ كيف يُمكن للموجود أن يتغير وأن يبقى هو هو فى آن معاً؟».

يقف طرابيشى عند العبارة المشهورة لطه حسين «علينا أن نصبح أوروبيين فى كل شىء، قابلين ما فى ذلك من حسنات وسيئات». يرى أن طه حسين، الرمز الأهم بين مفكرى زمن النهضة، خلط بين التحديث والتغريب. طرابيشى يعتبر أن التغريب «سلبٌ للهوية وإبدال وإفقار إلى حد الإعدام». هو يُدافع عن تحديث ينطلق من الذات، لا تغريب يقوم على مُحاكاة الآخر ونسخ تجربته.

يعكس هذا الموقف جانباً مهماً من إسهام طرابيشى. هو كان مُدافعاً عن الحداثة إلى آخر الشوط. مع ذلك، لم يكن أبداً منسلخاً عن التراث أو رافضاً له أو حتى مقللاً من شأنه. على العكس، هو رأى أن الحداثة ذاتها لابد أن تنطلق من التراث. من إعادة قراءته والتفتيش فيه. حجته أن الإسلام صار ديناً كونياً عندما انفتح على الدنيا، على ناسها وثقافاتها المختلفة. الإمبراطورية العربية أبقت على الهيكل القديم لأهل البلاد المفتوحة وموظفيها وكتبتها. تأسيس العاصمة بعيداً عن مكة، مركز الدين، وفى دمشق (مركز الحضارة) كان حدثاً فارقاً. منذ القرن الثانى انطلق عصر الترجمة. فى القرن الخامس وقعت الردة. تكفير الغزالى للفلاسفة كان إيذاناً ببدء «انغلاق الحضارة على نفسها». هكذا بدأ عصر، مستمرٌ معنا إلى اليوم، من محاولات دائبة لتطهير الحضارة من كل ما هو ليس إسلامياً. هذا «التطهير» هو جوهر الفكر السلفى.

طرابيشى لا يعتقد أن السلفيين هم وحدهم من يُعادى التحديث، بل يرصد هذا النمط من التفكير لدى قامات فكرية سامقة- مثل الدكتور جلال أمين- يعتبرهم «مرضى بالغرب». يراهم يسيرون عكس القانون الذهبى الذى كان سبباً فى ازدهار حضارة المسلمين: الانفتاح الواثق على الآخر، لا الخوف المرضى منه والشك الأبدى فيه.

سيرة حياة طرابيشى عامرةٌ بالإنجاز الدؤوب المتفرد فى زمن صعب. زمن الردة. يقول فى مقاله الوداعى: «إن شللى عن الكتابة، أنا الذى لم أفعل شيئاً آخر فى حياتى سوى أن أكتب، هو بمثابة موت، ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذى هو موت الوطن».

gamalx@yahoo.com