ابحثْ عن سيِّد قطب وأبى الأعلى المودودى

أحمد الشهاوي السبت 19-03-2016 21:50

لُغويًّا «الردَّة» هى (الرجوعُ عن الشىء إلى غيره)، كما جاء فى قاموس «لسان العرب» لابن منظور، ومادام المسلم لم يرجع عن دينه إلى دينٍ آخر، وأنه لم يكْفُر بعد إسلامه، أو يخرج منه مُعلنًا ذلك على الملأ، ولم يشكِّك فى صحيح الدين، أو يُنكر الرسالة، فلماذا يتبجَّح تُجَّار الدين ويطلقون أحكامهم، وينفِّذونها فى حق من يرونه مختلفًا معهم فى المذهب أو فى الفكر، أو لمجرَّد أنه اجتهد وأعمل عقله فيما ينبغى أن يشتغل العقل، ولكن هؤلاء مثلما قد غُيِّبت قلوبهم وأرواحهم وصغُرت نفوسهم وتحجَّرت، فقد غُيِّبت عقولهم، وصار عليها أقفالٌ صدئت من شدَّة الغباء.

فأن تكتب ما يخالف عددًا من المشتغلين بالدين، حتى ولو استندت إلى مرجعٍ قديمٍ أو مصدرٍ موثوقٍ حول صحابىٍّ أو تابعٍ أو تابع التابع، فيمكن أن تخرج من الدين، وتصير مرتدًّا، وفى أقل النتائج قد تُسجن سنةً أو ثلاث سنوات، وهذا ليس كلامًا نظريًّا لكنه حدث على أرض مصر، ويحدث، وسيحدث، فمثلاً عمرو بن العاص لو وجهت إليه نقدًا أو عرضت لسيرته التى هى متداولة ومتواترة ومنشورة فى الكتب التى لا يحبها تجَّار الدين، فأنت تشكِّك فى صحيح الدين، مع أن عمرو بن العاص بشر مثلنا يخطئ ويصيب، وما فعله فى (فتح، غزو) مصر، يحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ، بعيدًا عن التقديس الذى لا يستحقه، لأنه ليس إلهًا ولا نبيًّا مُرسلا يُوحى إليه، لكن نوَّاب الله على الأرض صاروا يمنحون صكُوك الغفران، وصكُوك الألوهية والنبوية لمن يشاءون.

فالردَّة عن الدين هى الارتداد الذى لا التباسَ فيه، أى أن الأمر واضحٌ لا غموضَ حوله، لكن ما نراه فى زماننا هذا، هو أن الذين قُتلوا وقطِّعت أوصالُهم وفُصِلت رُؤوسهم، وأُعدموا بالرصاص، لم يكونوا مُرتدين عن دينهم الإسلام، ولكن ما قالوا به أو ما يعتنقونه من مذهبٍ أو فكرٍ يُخالف الذين يُسيطرون على المناطق التى يعيش فيها هؤلاء، ومن ثمَّ تُلقى الاتهامات بالكُفر والإلحاد والزندقة جُزافًا وفى غير محلِّها، ولغير أهلها، والتاريخ القديم والحديث يقدم لنا ثبتًا من الصعب حصره، لمن قُتلوا بتهمة الردَّة والإلحاد من أئمة القوم وليس من عوامهم، كالحلاج والسُّهروردى، وهؤلاء لم يميلوا إلى الكُفر، ولم تطمئن قلوبهم لغير دينهم، لكنَّ لهم نظراتهم وأسئلتهم، ولهم الحق فى أن يتثبتوا ويستبصروا، إذ ليس البشر أعلى من ربهم الأعلى الذى سأله أنبياؤه فأجابهم، ولم يفعل بهم الأفاعيل التى نمسى عليها ونصبح، ولن أقول لهؤلاء إن القرآن يقول: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف 18:29، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس 10:99، ولن أقول إنَّ النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، لم يُطبِّق حد الردة، والأمثلة كثيرة وموجودة فى البخارى ومسلم.

إن ابن الراوندى (المتوفَّى سنة 910 ميلادية) مثلا، وهو أحد أهم اللاأدريين والزنادقة فى التاريخ الإسلامى، قد توفى فى الأربعين من عمره ولم يُقتل، مع أنه عاش فى زمن الأئمة البخارى ومسلم والطبرى وابن الخياط، ولم يتعقَّبه أو يترصَّده، أو يتربَّص به أحد، بل ظلَّت كتبه موجودةً، حتى وصلت إلى أيامنا هذه، وهى متداولة ومتاحة لمن أراد قراءتها، وقد ردَّ عليه كل من ابن البلخى والخياط وابن خلكان وابن النديم وابن المرتضى، ولم يقولوا بقتله، وأُثبت هنا بعضا من كتبه لمن أراد الاستزادة:

«كتاب الابتداء والإعادة، كتاب الأسماء والأحكام، كتاب خلق القرآن، كتاب البقاء والفناء، كتاب لا شىء إلا موجود، كتاب الطبائع فى الكيمياء، كتاب اللؤلؤ، كتاب الإمامة، كتاب فضيحة المعتزلة، كتاب القضيب (كتاب القضيب الذهبى)، كتاب التاج، كتاب التعديل والتجوير، كتاب الزمرد، كتاب الفرند، كتاب البصيرة، كتاب الدامق (أثار غضب السلطان، وقد أمر بإحضاره لكنه هرب والتجأ إلى يهودى مات عنده)، كتاب التوحيد، كتاب الزينة، كتاب اجتهاد الرأى».

ولقد ارتدَّ كثيرون فى زمن الرسول، ولم يأمر بقتلهم، أليس هو القائل: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه».

ولكن استُغلت الردَّة فى التاريخ العربى الإسلامى للتخلُّص من المتصوفة والشُّعراء والفقهاء والأئمة المستنيرين، أو الذين يختلفون فكريًّا مع فقهاء السلطان أو الأئمة المتدثِّرين بعباءات الخُلفاء والملُوك والأمراء، لأنَّه ما أسهل أن تُسوِّق للعامة أن فُلانًا مرتدٌّ وكافر وملحد وزنديق ومهرطِق، كى تتخلص من معارضٍ لك ينغِّص عليك حياتك، أو يكشف لهؤلاء العامة حقيقة أمرك وفسادك.

ولى صديقة بهائية مثقفة وعارفة وأكاديمية، ودومًا أمتدح بهاءها وجمالها، فهل يُعتبر امتداحى لها ولسلوكها ارتدادًا عن دينى ودخولًا فى دينها كما يُفتى محمد رشيد رضا فى كتابه «الفتاوى»، وهل يتوجَّب علىّ قتل صديقتى كما يقول آخر، باعتبارها تتبع فرقةً ضالة ومارقة؟!

إن المكفِّر سيئ الظن بطبعه، شكَّاك، شرير، مُتطرِّف، متَّهِم، جاهل ومتشدِّد، سطحى الفكر والمعرفة، يتوقف أمام القشُور ويترك اللب والمتن ذاهبًا نحو ما هو شكلى وهامشى، مغرور، مزدرٍ للغير، معجب بذاته، معتقد أنه الحق والحقيقة، وأنه قد وصل إلى مرتبة الألوهية، فدعوا إلى ترك الكليات، ومنع الانتساب للجامعات والمعاهد، إسلاميةً أكانت أم غير إسلامية، لأنها مؤسسات الطاغوت، وتدخل ضمن مساجد الضرار، وأطلقوا أن الدعوة لمحو الأمية دعوة يهودية لشغل الناس بعلوم الكُفر عن تعلُّم الإسلام فما العلم إلا ما يتلقونه فى حلقاتهم الخاصة».

وهؤلاء يردِّدون بشكلٍ أو بآخر ما جاء به أبوالأعلى المودودى وسيد قطب (معالم فى الطريق- 1964 ميلادية)، من اتهام المجتمع المسلم بـ«الجاهلية الأولى»، ومن يومها والحركات التى تكفِّر المجتمع المسلم فى ازديادٍ وانتشارٍ حول الأرض.

ahmad_shahawy@hotmail.com