ما زلنا مع كتاب جوزيف جاى جايس: «الزنديق الأعظم» الذى ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد نجيب هاشم، والذى يحكى لنا بأسلوب روائى أخاذ سيرة حياة الإمبراطور فريدريك الثانى (1194ـ 1250م) الذى تميز بين الحكام الأوروبيين بأنه كان واسع الثقافة فى عصر يسوده الجهل والظلام حتى على مستوى الملوك والأباطرة، ولقد انكب فريدريك الثانى انكبابا شديدا على الثقافة العربية باعتبارها ثقافة شديدة التقدم فى زمانه، حيث تركت بصمات عميقة على صقلية (موطن فريدريك) رغم قصر المدة التى خضعت فيها الجزيرة للحكم العربى الإسلامى منذ أن فتحها القائد العربى أسد بن الفرات عام831م، إلى أن استولى عليها النورمانديون (أجداد فريدريك) عام 1091 م، وإذ ذاك تحول العرب المسلمون الذين كانوا يقطنونها إلى أقلية تتسم بأنها شديدة الرقى فى محيط يتسم بأنه شديد الجهل والتخلف!! ويبدو أن فريدريك قد انبهر بتلك الأقلية الراقية فراح ينهل من العلوم العربية بجهده الفردى الخالص ويدرس فنون تلك الأمة وآدابها، بل ويكتب باللغة العربية مذكراته الشخصية مطمئنا إلى أنها سوف تكون فى أمان عن أعين المتطفلين، لأن القليلين هم الذين يعرفون القراءة والكتابة أصلا حتى باللغة الأصلية للسكان فما بالنا بلغة أخرى؟.. وقد اكتسب فريدريك من الثقافة العربية (ربما لاطلاعه على أعمال أبى بكر الرازى وجابر بن حيان وإن كنا لا نملك دليلا قاطعا على ذلك)، اكتسب ولعا شديدا بإجراء التجارب العلمية واكتساب المعرفة من نتائج تلك التجارب وليس من الأقوال التى يتناقلها الخلف عن السلف دون اختبار أو تمحيص).. ومن ثم فقد أجرى تجربة لكى يتأكد من خلالها إن كان الكائن الحى عندما يموت تخرج منه روح أم لا، وكما ذكرنا من قبل، فقد كانت التجربة التى أجراها تتمثل فى وضع طائر داخل جرة، وتشميع فوهتها، فإذا ظل التشميع على حاله بعد موت الطائر، كان هذا فى رأيه دليلا على عدم خروج روح وإلا لكان التشميع قد انفضّ!!... ورغم سذاجة التجربة إلا أنه أعلن بعد إجرائها أنه قد تيقن أن الذى يموت، لا تخرج من جسمه روح، بل لا يخرج منه أى شىء على الإطلاق خلافا لما يردده رجال الدين ويصدقه العامة!!، وعندما تمادى فريدريك فى مسلكه المستفز دينيا من وجوه كثيرة من بينها هذه النوعية من التجارب، أصدر البابا قرارا بحرمانه من رحمة الكنيسة فرد عليه بإصدار قرار مضاد بحرمان البابا نفسه من رحمة الإمبراطور!!.. حينئذ دعا البابا إلى عقد مؤتمر لأساقفة ومطارنة الكنائس الأوروبية لاتخاذ موقف موحد من ذلك الإمبراطور الزنديق.. وأرسل البابا سفينة خاصة راحت تطوف بالموانئ الأوروبية لكى يستقلها الأساقفة والمطارنة الذين سارعوا إلى تلبية الدعوة.. وعندما بلغت فريدريك أنباء المؤتمر المرتقب.. تربص بالسفينة بعد أن اكتملت حمولتها وقام بإغراقها بمن فيها!! فحال بذلك دون انعقاد المؤتمر بطريقة مبتكرة!!.. لهذا لم يكن غريبا أن يكون تعقيب البابا إنوسنت الرابع عندما بلغه نبأ وفاة الإمبراطور فريدريك (بالمناسبة: توفى الإمبراطور وفاة طبيعية فى نهاية المطاف رغم أنه خاض حروبا لا تحصى)، لم يكن غريبا أن يكون تعقيب البابا هو: «الآن.. لترقص الأرض والسماء طربا لهذا الخلاص العظيم»!، وصدرت الأوامر بتعقب (الأفاعى) من نسل فريدريك وإبادتهم فطوردوا وقتلوا واحدا بعد الآخر حتى أبيدوا عن آخرهم!!.