دروس من الغابة

وجيه وهبة السبت 19-03-2016 21:51

«تثاقلت حركة الأسد مع كبر سنه، فأصبح عاجزاً عن مطاردة فرائسه، والحصول على طعامه بانتظام. هزل جسده وساءت صحته. لزم عرينه، كى لا ترى الحيوانات ضعفه وهزاله، ويفقد هيبته. راح يفكر. لجأ إلى الحيلة والخديعة. أذاع وأشاع أنه يمر بوعكة صحية عابرة. حرصت جميع الحيوانات على زيارته، تقربا وخوفا. أصبح الأسد ينعم بوجبات طعامه بانتظام وبدون مجهود يذكر. فهو ينقض على كل زائر له، ويلتهمه فى موعده المحدد سلفا.

حينما حل يوم دور زيارة الثعلب، اقترب من بيت الأسد، ولكنه وقف ببابه فجأة.. لم يدخل.. أرسل له التحية والتمنيات من بعيد، وسأله عن صحته، أجاب الأسد بأنه أفضل حالًا، سائلاً الثعلب: تفضل.. لماذا لا تدخل يا صديقى؟!، ولكن الثعلب استدار وانصرف مجيباً: «إنى أرى كثيرا من آثار أقدام الداخلين ولا أرى أثرا واحدا لأقدام خارجة». (عن حكايات «أيسوب» Aesop بداية القرن الخامس ق. م. تقريبا) . فسر الرموز كما يحلو لك.

مازال الداخل مفقودا والخارج مولودا. فكل خطاباتنا الفكرية.. السياسية.. الدينية.. الأمنية.. طاعنة فى السن إلى حد العجز والخرف.. والدولة شاخت وباخت.. أفرادا وأفكارا.. وأدواتها القديمة البالية تقضى على أى محاولة مساعدة أو شد أزر. ولم ينج منها حتى ثعالب التجديد.

المستهدف من سرد الحكايات على ألسنة الحيوانات، هو النصح والإرشاد، للحكام، وتنبيههم إلى حماقاتهم، بطريقة رمزية خيالية مسلية، دون التعرض لبطشهم. هذا فضلاً عن نشر الحكمة والقيم التربوية لدى الناس عامة والنشء خاصة. وهو أسلوب موغل فى القدم، وفى معظم الثقافات. منذ الأساطير الهندية فى «المهابهاراتيا» و«البنجاتنترا»، و«أيسوب» فى اليونان القديمة، إلى يومنا هذا وأشعار أحمد شوقى، مرورًا بالكتب السماوية، وبكليلة ودمنة (النسخة العربية، المزيدة من البنجاتنترا وأساطير أخرى)، وحكايات «لافونتين La fontaine» حوالى منتصف القرن السابع عشر.

صحبة السلطان: قصص «كليلة ودمنة»، كتبت فى الهند، باللغة السنسكريتية، نحو القرن الثالث أو الرابع الميلادى، ثم ترجمها إلى اللغة البهلوية «الفارسية القديمة» الطبيب «برزويه»، ومن الفارسية ترجمها «ابن المقفع» إلى العربية، وزاد عليها فصولا، وذلك قبل أن يعذب ويقتل، فى زمن خلافة «أبى جعفر المنصور»، وذلك نحو منتصف القرن الثامن الميلادى. قتل بحجة «الزندقة»، (التى هى «ازدراء الأديان»، بلغة قانون العقوبات المصرى، فى القرن الواحد والعشرين. مادة ٩٨ فقرة (و)، والتى وفقا لها سجن المجدد إسلام بحيرى منذ عدة أشهر.. هل تتذكرون إسلام بحيرى؟).

فى «باب الأسد والثور»، من الكتاب المذكور، الكثير من المعانى والدلالات. «حين سمع الأسد خوارا قويا آتيا من بعيد.. ارتعد.. شعر بالخوف.. هو الخوف من المجهول.. فلم يكن قد شاهد ولا سمع ثورا من قبل. صارح نديمه، الثعلب (دمنة) بهواجسه، وبأن من له هذا الصوت القوى لابد أن يكون صاحب جسد ضخم قوى. ذهب (دمنة) لاستطلاع الأمر. وجد صاحب الخوار العالى.. الثور (شتربة)، قال له إنه مكلف باستدعائه لمقابلة الأسد، الذى هو ملك السباع، والذى جميع السباع هم جنود له، وإنه من الخير له أن يذهب معه، وإنهـ أى دمنةـ يضمن له الأمان. ذهبا معاً لملاقاة الأسد.. تعرف الأسد على الثور (شتربة)، أنس له. ضمن له الحياة فى معيته. صادقه، وأصبح (الثور) مقرباً منه، وخصه وحده دون (دمنة) وإصحابه بالمجالسة واللهو والمسامرة. خشى (دمنة) على تصاعد منزلته لدى الأسد، شعر بالغيرة من (شتربة).. حسده.. حقد عليه.. قرر ونجح.. نجح فى الوقيعة بين الأسد والثور.. أفهم كلاً منهما على حدة أن الآخر يتربص به ويتحين الفرصة للقضاء عليه.. نشب قتال بينهما.. قتل الثور وجرح الأسد جرحاً خطيراً. وبعد حين، اكتشف الأسد الخديعة، فكانت نهاية الثعلب (دمنة)».

وفى سياق هذه القصة تلمع الكلمات الدالة التالية على ألسنة الأسد تارة، وكليلة أو دمنة تارة أخرى:

مروءة الرجل وعلمه، كالشعلة من النار، يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا.

العقل آفته الصلف، والمروءة آفتها النميمة، والقلب الضعيف آفته الصوت العالى.

لا يغرنك ذلك منه، ولا يصغرن عندك أمره، فإن الريح الشديدة لا تحطم الحشيش الضعيف، وهى تحطم عظام الشجر والنخيل. إنما غر الأسد منك أنك تحسن الكلام، فأهلكته لأنك لا تحسن الفعل.. لا خير فى القول إلا مع الفعل، ولا فى النظر إلا مع الخبرة، ولا فى المال إلا مع الجود، ولا فى الصديق إلا مع الوفاء ولا فى الصدقة إلا مع النية، ولا فى العفة إلا مع الورع، ولا فى الأمن إلا مع السرور. ولا فى الحياة إلا مع الصحة.

الأدب يذهب عن العاقل الطيش ويزيد الأحمق طيشاً. كما أن النهار يزيد من نظر ذى البصر، ويزيد الخفاش سوء النظر.

البحر بأمواجه والسلطان بأصحابه.

ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التى فى مبيته ومقيله، فلا يدرى متى تلدعه.

ثلاث لا يسلم منها إلا القليل: صحبة السلطان وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة.

«استقر الغراب فوق الشجرة العالية وفى منقاره قطعة من الجبن الجيد. فاحت رائحة الجبن فأقبل الثعلب الجائع ووقف تحت الشجرة مخاطبا الغراب: (ما أجمل منظرك بهذا الريش الباهر، لو كان صوتك جميلا مثل هيئتك، لأصبحت سيد كل الطيور).. وهنا فتح الغراب منقاره ليغنى ويثبت جمال صوته، فسقطت قطعة الجبن ويلتهمها الثعلب منصرفا، قائلا للغراب إن قطعة الجبن هذه هى ثمن الدرس الذى تلقاه، فعليه ألا يخدع بعد ذلك ويصدق إطراء ونفاق المحتالين». (من حكايات «لافونتين»).. رزق المنافق المحتال على النرجسى المغرور.