لم نعد نرى في كل ما يحيط بنا من خطوب ونكبات، إلا نصف الحقيقة الحلو، بينما يظل النصف الآخر، والذي دائما ما يكون مرا، كمسمار بلا رأس يغوص داخل الخشب ويستعصى على الخلع مهما أوتيت من أدوات وأيادٍ ماهرة، حتى إذا آن أوان ظهور هذا النصف الخفي، ليكون ظهوره مخيفا.
أجدني أفقد المعنى، عندما تعز الحقائق الكاملة، في بلد الانفتاح الثوري، صاحب أول ثورة في تاريخ البشرية، والتي اندلعت في عهد الدولة القديمة، وكان الحكيم إيبور، ببردياته الشهيرة، شاهد سماع ورؤية عليها، وسجل من وحيها أشعاراً قيمة خالدة، ضد المظالم الاجتماعية والامتيازات الطبقية واللصوصية الأرستقراطية.
لكني اهتديت إلى أن بتر الحقائق ثقافة راسخة في الحكم، بمعناه السياسي وبمغزاه الشعبي التقليدي ومرادفه الأخلاقي، وفحواه التشريعي، فحق عليها قول رجل الدولة الفذ بنجامين فرانكلين: «إن نصف الحقيقة كذبة كبيرة».
إنها ثقافة تتسيد على الرقاب وتتصيد بالمخلب وتنهش بالناب، فلكل منا مهما علا أو ارتقى ملف تتراكم فيه الآثام وتتضاعف فيه السيئات التي لا تمحوها أي حسنات، حتى تحين اللحظة الحاسمة، لحظة المفارقة والمحاسبة والمؤاخذة.
أخذت أتأمل في الأحداث القليلة الماضية لعلي أجد جوابا شافيا يفض من تشابكها ويجد رابطا أو علاقة سببية بين السبب والمسبب، فلم أجد إلا عملة واحدة وجهها الأول أنصاف الحقائق والثاني ملفات سوداء.
فمثلا ظل أحمد الزند، وزير العدل المُقال سيدا في منصبه، قبل أن يزل لسانه ويخوض في مقام النبوة الشريف، وكان يلقب «شعبيا» بأسد العدالة الجسور، ومفجر ثورة القضاة، لكن الشعب التقي النقي انتفض وامتعض وبالطبع عنده كل الحق، ولم يكن هناك من بد لتهدئة الغضب الجماهيري، إلا بكشف المستور، لنكتشف أن الرجل وبلا مقدمات كانت عليه عديد من علامات الاستفهام الغليظة التي تستوجب العقوبة المغلظة، والتي كانت أبصارنا القاصرة لا تراها، وأنه يستغل منصبه لتصفية حساباته الشخصية، والتدخل في صرح القضاء الشامخ.
بل إن هناك من يذهب إلى أن السبب الحقيقي هو حديثه عن تقرير الطب الشرعي للطالب الإيطالي جوليو ريجيي الذي أثبت إصاباته، حيث أكد أن ما جاء في التقرير عن ريجيني هي الرواية التي يعلمها الجميع ولا يمكن إخفاؤها.
وزاد الزند في حوار الأزمة بفضائية «صدى البلد» والذي أدى إلى إقالته: «مش ممكن هنطلّع تقرير مزور، وما هو موجود في الجثة لابد أن يذكر، ومفيش حاجة تبرر الكذب والخطيئة إطلاقا.
فكان الثمن السياسي باهظا ليظهر النصف المر من الحقيقة، إنه ليس، فحسب، بسبب التجاوز في حق النبي الكريم، فلا بديل إذن إلا العزل وحق عليه التشهير، هكذا؟!!
وهذا ما ينقلنا تلقائيا إلى قضية جوليو ريجيني الإيطالي، والباحث في جامعة كامبريدج، فقد ثار حوله جدل ساخن تخطى النطاق المحلي للدولة المصرية، واتخذ بعدا دوليا سياسيا وقانونيا وأخلاقيا، وتدخلت فيه كيانات كبرى مثل البرلمان الأوروبي، الذي ندد في قراره بقوة بتعذيبه واغتياله في ظروف مريبة، حيث وافق على القرار 588 عضوا وعارضه 10 أعضاء، وامتنع 59 عن التصويت.
ثم يتم العثور على خيط رفيع لعله يفك طلاسم اللغز، وأن الطالب القتيل كان قد تشاجر مع مواطن له أمام القنصلية الإيطالية، ثم يثبت كذب الشاهد على الواقعة بسبب تناقض وتضارب أقواله، ومن ثم نفي وزارة الداخلية لها، أما حقيقة ما حدث فلا أحد يعرف إلا النصف منه، أي نصف الحقيقة إنه وجد مقتولا وعلى جسده آثار التعذيب.
وأخيرا يتم الرد رئاسيا في روما بأن اختفاء المواطن المصري عادل معوض في إيطاليا وما حدث للمواطن الإيطالي، من نوع الحوادث الفردية، ليتم التعامل مع القضية بمنطق «منا رجل ومنكم رجل»، وهذه بتلك، و«مفيش حد أحسن من حد»، وهكذا يظل نصف الحقيقة غائباً.
خذ مثالا آخر: توفيق عكاشة، الخادم الأمين للنظام الحاكم، ومحطم الرقم القياسي في التشهير بخصوم السلطة والتملق لساداتها، والذي عُرف- عنوة- بأنه مفجر ثورة 30 يونيو أو هكذا لقب نفسه بنفسه، وصدقه كثيرون، نوه عن لقائه بالسفير الإسرائيلي، ونشرت عنه الصحف وتناولتها البرامج قبل وقوعها وأوسعتها نقدا وقدحا، وظل مجلس النواب مترقبا إلا أن صار اللقاء واقعا ملموسا ووقع الفأر في المصيدة، وتمت إجراءات الإقصاء على عجل، لقد تبين أن الموقف الوطني من التطبيع ليس هو السبب الوحيد، فقد تجرأ وطلب انتخابات رئاسية مبكرة، وإقالة الحكومة وحل البرلمان، وأنه يناصب وزارة الداخلية العداء خاصة في قضايا تخص إهدار المال العام في أراضٍ اتهم بالاستيلاء عليها، وأنه لا يحترم هيبة المجلس النيابي الموقر وتقاليده المستقرة تاريخيا، بل إن هناك من يتحدث عن صراع ما بين الأجهزة في المسألة، وحقيقة لا أعلم أي صراع، ولا أعلم أي أجهزة!.
وإليك واقعة رابعة بطلتها إعلامية بالتليفزيون الرسمي هي عزة الحناوي، والتي بلغ ذمها مبلغا غير مسبوق، عندما هاجمت سياسات رئيس الدولة، فحق عليها الطرد واللعن، لتتبين أنها هي الأخرى من أصحاب السوابق غير المهنية والانتقادات غير اللائقة وأنها إخوانية الهوى، فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي تخطئ في حق الرجل، وأنها مغمورة تبحث عن الشهرة أو الانتقال من «حبسة» ماسبيرو إلى براح الفضائيات الثرية، ليتضح فجأة أنها من الباحثين عن الرونق والتأنق وتقمص البطولة والمبارزة بالسيوف الخشبية والسباحة عكس التيار، إذن لماذا تركت كل هذه الفترة دون محاسبة، ومن الذي وسع لها هامش النقد والتجريح والتقبيح؟
هذا غيض من فيض متدفق من الأحداث والوقائع، اكتفى منها بهذا القدر الضئيل، فلم أنصب نفسي محاميا عن أصحابها، ولكني أوردتها لأنها احتلت مساحة واسعة من رأينا العام، الذي، وللأسف الشديد، تشكل قدرٌ كبيرٌ منه بأنصاف الحقائق، والتي لا تأتي إلا بأنصاف الحلول.
لقد صارت حقيقة الأحداث لدينا كجبل جليد تطفو قمته، ويظل بدنه تحت الماء، لتكون سفينة الوطن كلها في خطر، فيا لهول الارتطام عند وقوع الصدام.. فما العمل؟
إننا والحال هكذا كالقرشيين الذين كانوا يصنعون تماثيل العجوة ليقدسونها، هذا هو نصف الحقيقة، أما نصفها الآخر فيأتي عندما نجوع فنلتهمها مثل القروش.
فهناك من ينظر إلى الحقيقة العارية وكأنها امرأة فاجرة يجب رجمها أو التبرؤ من عارها أو على أسوأ الفروض حجبها عن الأنظار، حتى لا تصادف عينا شاردة تفضح تفاصيل ما خفي منها قبل الأوان.
وقد كان شاعر المهجر الكبير جبران خليل جبران محقا عندما قال: لا تعش نصف حياة ولا تمت نصف موت.. لا تختر نصف حل ولا تقف في نصف الحقيقة.. لا تحلم نصف حلم ولا تتعلق بنصف أمل.