سد «النهضة».. خطيئة النفس في حق النفس! 1/6

يحيى غانم الخميس 17-03-2016 19:48

مبادرة حوض النيل.. وكارثة التفاوض الجماعي

لا شك في أن كابوس سد «النهضة» الذي تعيشه مصر حالياً، وما سينجم عنه من نتائج وخيمة لم يكن وليد الأمس، كما أنه لم يكن أحد النتائج التي ترتبت على ما يصفه سياسيون وإعلاميون بـ«يناير خساير» كما يصمون زوراً وبهتاناً ثورة 25 يناير عام 2011 بزعم أنها جلبت الخسائر والمصائب على مصر. والحقيقة التي تدعمها الوثائق هو أن ذلك الكابوس بدأ في مطالع تسعينيات القرن العشرين، ثم تبدت ملامحه في التشكل في منتصف ذلك العقد، وظهرت هذه الملامح جلية في بداية الألفية، وذلك قبل أن يكتمل جسد هذا الكابوس في العام 2010 وأخيراً تجسد الكابوس واقعاً في مارس من العام 2015..

ولا شك في أن إثيوبيا في كل تلك المراحل لم تكن تضمر حسن النوايا لمصر -وأستثني السودان كإحدى دولتي المصبِّ، حيث إن مصابها أخف بكثير من مصيبة مصر- إلا أنه إذا أراد المصريون تحري الدقة والموضوعية لكي يعودوا إلى الطريق الصحيح الذي تنكبوا عنه، يجب أن يعترفوا بأن قياداتهم ارتكبت خطايا تقرب إلى حد خيانة الذات، سواء كان ذلك بعلم أو بجهل.
أستميحكم عذراً بأن أورد قصة لا أقصد من ورائها تماثلاً مع ما يجري حالياً مع مصر، فيما يتعلق بمياه النيل..

القصة بدأت في مارس من العام 1998 عندما أسفرت نتائج الانتخابات النيابية في مملكة ليسوتو -التي تمثل جيباً جغرافيًّا داخل أراضي شمال جنوب إفريقيا- عن فوز ساحق لحزب مؤتمر ليسوتو من أجل الديمقراطية، وذلك قبل أن تثور مزاعم بالتزوير، أعقبتها أعمال شغب واسعة النطاق، ثم تردد شائعات عن احتمالات انقلاب عسكري في سبتمبر/أيلول من نفس العام. وعلى الفور، أخذت جنوب أفريقيا -بقيادة زعيمها الراحل نيلسون مانديلا داعية السلام العظيم- زمام المبادرة باستصدار قرار من مجموعة دول تنمية الجنوب (سادك) بإرسال قوات جنوب إفريقية تنوب عن المجموعة للتدخل في ليسوتو. كان هدف التدخل الجنوب إفريقي هو ضمان السيطرة على سد كاتس الواقع في جبال مالوتي الذي تقبع فوقه ماسيرو عاصمة ليسوتو، والذي يقوم بتزويد إقليم فيتسفاسرراند الإستراتيجي في جنوب إفريقيا بالمياه، وذلك قبل أن تنسحب القوات الجنوب إفريقية في مايو/أيار من العام 1999. الطريف في المسألة، أنه وبعد التدخل العسكري الجنوب إفريقي، اتضح أن الانقلاب لم يكن سوى وهماً، إلا أن أحداً لم يستطع أن يلوم بريتوريا على تصرفها، ولا أن يلثم زعيمها العظيم مانديلا، وذلك بالرغم من أن جنوب إفريقيا لديها موارد مائية أخرى كبيرة على مستوى الدولة، وهو ما ليس متوافراً لدى مصر التي ليس لديها سوى حصتها من مياه النيل.

بالطبع، فإن مصر حاليا -للأسف- ليست هي جنوب إفريقيا سواء في عناصر القدرة (المنعة الاقتصادية والاستقرار السياسي والقدرات العسكرية) ولا هي دولة جوار مباشر لإثيوبيا كما هو الحال بين جنوب إفريقيا وليسوتو تلك المملكة الجبلية القزمية. إلا أنه على الجانب الآخر، فإن الأزمة المحتملة التي كان يمكن أن تهدد إقليماً -مجرد إقليم- في جتوب إفريقيا لا تقترب بأي شكل من الأشكال من الكارثة المحققة التي تهدد مصر بأكملها في الصميم.

مرة أخرى، هذا النموذج ليس دعوة للتسرع بالتفكير عسكريًّا، ولكنه في الحقيقة يطرح أسئلة مهمة -إجبارية وليست اختيارية- إجابتها تمثل بداية الطريق الصحيح لمعرفة كيف وصلت مصر إلى هذا الموقف البائس في قضية المياه، وذلك إذا كنا صادقين في البحث عن مخرج منه. ومن بين هذه الأسئلة:

تواجه مصر حالياً أمراً واقعاً -سد النهضة بمواصفاته الجائرة- فرضته إثيوبيا على مصر بدعم عَشْرٍ من دول حوض النيل وموافقتهم، فما هو الطريق الذي سلكته إثيوبيا لكي تصل إلى هدفها؟ وكيف ساعدتها مصر في ذلك؟ الإجابة بسيطة، وهي أن الطريق بدأ بما يسمي مبادرة حوض النيل والتي ورثت في العام 1999 ما عرف قبلها بمجموعة عمل التيكونيل، والتي كانت عبارة عن تجمعٍ لعدد من دول حوض النيل لبحث مشروعات التنمية وحسن إدارة مياه النيل في تلك الدول..

الغريب والمريب في آن واحد أن التحول إلى تلك الآلية الجديدة (مبادرة حوض النيل) والتي حرصت على ضم إثيوبيا وكينيا اللتين لم تكونا ضمن مجموعة عمل التيكونيل جاء بدفع من مصر، وذلك تحت مسمى تعظيم الفائدة من مياه النيل لكافة دول حوضه. إلا أنه عمليًّا، فإن بدفعها ذلك، قامت مصر عمليًّا بحشد كافة دول الحوض على جانب من مائدة التفاوض -الذي كان واضحًا أنها آتية لا ريب فيها- وجلست هي بمفردها على الجانب الآخر، وذلك باستثناءات قليلة ارتهنت بباروميتر علاقات مصر المتذبذبة بالنظام الحاكم في السودان. هذا السلوك، لا يمكن أن يقدم عليه مسؤلو دولة يسألون عما يفعلون؛ فمصر عبر تاريخها لم تسمح لنفسها ولا لأي طرف أن يملي عليها ذلك الجنون. ففيما يتعلق بمياه نهر دولى، فإن القانون الدولي هو الذي يحكم العلاقات المائية بين الدول المتشاطئة، بالإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية، وخاصة إذا ما كانت متوافقة مع أحكام القانون الدولي. وبالمناسبة، فإن الاتفاقيات الثنائية بين مصر ودول الحوض -المتوافقة مع القانون الدولي- هي نفس الاتفاقيات التي ترسم الحدود فيما بينهم.

إذا كانت إجابة السؤال الأول واضحة، فيما يتعلق بالطريق الذي سلكته إثيوبيا للوصول إلى فرض الأمر الواقع، وإذا كان هذا هو دور مصر في مساعدتها في هذا السبيل، فالسؤال المنطقي التالي يكون: مَن في الإدارة المصرية الذي اقترح هذه الآلية التي وحدت بين دول حوض النيل على ما يخالف القانون الدولى، وترك القاهرة تقف بمفردها في موقف تفاوضي لم يكن من المفترض أن يكون من الأساس؟ وإن كان التفاوض حتميًّا، فإنه كان ينبغي أن يكون تفاوضاً ثنائيًّا وليس جماعيًّا، وهو الشكل التفاوضي الذي سعت له مصر. ومن المعلوم بالضرورة أن تلك الآلية للتعاون الجماعي -مبادرة حوض النيل- كان واضحاً من البداية أنها غطاء للتفاوض الجماعي، وهو ما دأبت على طرحه مؤسسات تمويل دولية مثل البنك الدولي على مدار سنوات، وذلك قبل أن تتبناه مصر. فمن هو المسئول/المسئولون داخل الحكومة المصرية في ذلك الوقت الذي/الذين تبنوا هذا التوجه، بالرغم من معرفة القاصي والداني بأهداف تلك المؤسسات والتي تدور حول تسليع المياه في بعض الأنهار، وفي مقدمتها نهر النيل؟ والتسليع هنا معناه تحويل مياه النهر الدولي إلى سلعة تبيعها دول المنبع سواء كانت الشرقية أو الاستوائية إلى دولتي المصب (مصر والسودان). وحيث إن السودان لديها موارد مائية بخلاف مياه النيل، فإن العميل المستهدف يكون مصر.

قد يحتجّ البعض بالدفع بأن الهدف التفاوضي المعلن لمبادرة حوض النيل -التي تُنسب لمصر- لم يستهدف في البداية إعادة النظر في حصص دولتي المصب، وإنما جاء كالتالي:

مشروع نيل هضبة البحيرات الاستوائية، ويهدف إلى:

ترشيد استخدام المياه في الزراعة، الربط الكهربائى، تنمية الثروة السمكية ببحيرة ألبرت، مقاومة نبات ورد النيل في نهر كاجيرا، تنمية حوض نهر كاجيرا في كل من رواندا وبوروندي وتنازانيا وأوغندا، إدارة أحواض أنهار سيو وكالابا ومالاكيسي بين أوغندا وكينيا، إنشاء وحدة لتنسيق المشروعات.

مشروع النيل الشرقي، ويهدف إلى:

تطوير نموذج رياضي تخطيطي للنيل الشرقي لتقييم تأثير المشروعات التنموية ذات الفائدة المتبادلة سلباً وإيجاباً، دراسة المصادر المائية المتكاملة متعددة الأغراض لحوض نهر البارو وآكوبو، مشروع إدارة الفيضان والإنذار المبكر، مشروع تنمية الطاقة الكهرومائية والربط الكهربائي، تنمية مشروع الري والصرف، إدارة الأحواض العليا للهضبة الإثيوبية، إقامة المكتب الإقليمي لمشروعات النيل الشرقى.

كانت تلك هي الأهداف المعلنة لمبادرة النيل في البداية، إلا أن الهدف الرئيس -الذي كان الجميع يعلمه ولكن لا يتحدث عنه صراحة- تمَثَّل في الوصول إلى نقطة خلاف مفتعلة يتم نقلها إلى بؤرة تفاوض المبادرة، ألا وهي إعادة النظر في حصص المياه المستقرة لدول الحوض.. نعم، كان ذلك هو بيت القصيد.

فهل كان الذين دفعوا بمصر في اتجاه هذه الآلية الجماعية للتفاوض يعلمون نهاية هذا الطريق؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فإن الأمر يكون خيانة للنفس. أما في حال التذرع بالجهل، فإن ذلك يدخل في باب التقصير الجسيم الذي يرقى إلى مستوى الجريمة. فهل حوسب أحد على ما فعله؟ بالطبع لا، وهي خطيئة أخرى. هذه الأسئلة ليست سوى مقدمة لأسئلة أخرى، الإجابة عليها يمكن أن تعيد مصر ودول المنابع إلى الطريق الصحيح، بعيداً عن الكوارث التي يمكن أن تنزل بدولة المصب والتي بالتأكيد ستكون أكبر مهدد للسلم والأمن في القارة السمراء..

المقال ينشر نقلا عن موقع هافينغتون بوست عربي