فى ذكرى ميلاد موسيقار الأجيال.. «عبدالوهاب» مرآة لمصر والعرب

لوتس عبد الكريم الخميس 17-03-2016 21:24

يخطئ الكثيرون عندما يربطون الموسيقار محمد عبدالوهاب بالموسيقى والغناء فقط، لأن فن عبدالوهاب يمثِّل أحد أعمدة الكيان الثقافى المصرى والعربى فى القرن العشرين، ولنتذكَّر أنه بدأ العطاء مع بدايات هذا القرن، ثم أسلم الروح، عند عتبات عقد التسعينيات من القرن الماضى، ومن ثم يمكن القول إن تطور فن عبدالوهاب عبر عقود، هو نفسه مرآة صادقة لكل مراحل ومشكلات القرن العشرين فى عالمنا المصرى والعربى، وما مرَّ به من أحداث جسامٍ وأحوال شتى.

ولكل عصر من العصور مغنوه وملحنوه، الذين تألقوا فى سماء الفن، ولكن والحق يُقال لم يشهد أحد من هؤلاء الأساطين المنزلة الرفيعة، والمكانة السامية التى شهدها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ولم ينل من ألوان التقدير والتكريم ما ناله عبدالوهاب، ولم تطلق الجماهير على أحد منهم تلك الألقاب التى أطلقتها عليه، ذلك أنه لم يكن مجرد عظيم الشأن فى مجالى الموسيقى والغناء، وإنما كان أبعد من هذا بكثير، فقد كان رائدًا وسفيرًا للفن وفيلسوفًا ومعلمًا وموجِّهًا ودبلوماسيًّا، كان مجتمعًا بأكمله، وشخصية لها هيبتها وثقلها ووزنها وقرارها، الذى لا يُرد.

فعبدالوهاب كان مثالا لملحمة من الإبداع المتصل فى كل المجالات، وإن ما منحنا إياه من دروس تقول إن الفن جهد ومثابرة وتلمذة وإتقان ومراجعة وتهذيب وصبر وحوار، لأنه علمنا كيف نصوغ حياتنا- إن أردنا- بالنفس الطويل والحس الجميل. وإن عمر الإنسان لا يُقاس بالطول ولا بالعرض، وإنما يتجدَّد بتجدُّد النوع والعطاء وأن نبض العمر رهن باستمرار الفعل.

وكان لشوقى الدور الأعظم فى صقل شخصية عبدالوهاب منذ لحظة اللقاء، إذْ لم يفارق عبدالوهاب شوقى، أو لم يكف عن الاختلاف إلى الجامعة الشوقية لحظةً واحدة، حيث كان شوقى يصحبه إلى زيارة كبار الكتَّاب والمفكِّرين والصحفيين مثل طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل وأحمد لطفى السيد، وتوفيق دياب وأنطون الجميل، ومحمد المويلحى، بل كبار السياسيين مثل سعد زغلول وعدلى يكن وعبدالخالق ثروت وعلى ماهر والنقراشى، ووعى عبدالوهاب وصية شوقى له بالإنصات المتمعن فى هذه المجالس، فاستمع إلى كل هؤلاء، وكانوا الجامعة التى درس فيها أرقى ألوان المعرفة فى ظل توجيه شوقى.

ومن هنا تعلَّم عبدالوهاب أن ينصت دومًا أكثر مما يتحدَّث، وصار مستمعًا جيدًا، لديه القدرة على استيعاب أفكار الآخرين، والإفادة منها.

وكان من نتيجة معايشته للصفوة الشاعرة والناقدة أن عرف قيمة الكلمة والقدرة على تذوقها، حيث إن الكلمة عند شوقى كانت شيئا مهمًّا وخطيرًا، يجب التدقيق فيه، وتذوقه لكى تعطيك المعنى نفسه، الذى يتخيله الشاعر، إذْ إن حرفًا زائدًا أو ناقصًا قد يعنى بالنسبة لعبدالوهاب معنيين مختلفين تمامًا.

لقد تعلم من شوقى تحكيم العقل فى كل ما يتصل بحياته من شؤون اقتصادية وصحية واجتماعية وإنسانية، حتى يتفرَّغ- بكل طاقته الوجدانية- للفن.

ومرةً أخرى برزت صورة سيد درويش وأسلوب الحياة، الذى اغتاله- ومع موهبته- على صغر، مضمون ذلك فى كيانه أن صحته هى ثروته، وأنه بدونها لن ينتج شيئًا، هكذا وعى عبدالوهاب قيمة الحياة، وكان حريصًا على الحفاظ عليها، ومن ثم كان يأكل بحساب ويعمل بحساب ويرتاح بحساب (هكذا تعلَّم من شوقى)، وكان يفضِّل المسلوق ولا يشرب أو يدخن ولا يتناول المنبهات، ويواظب على النوم عشر ساعات يوميًّا، وهكذا فهم أن سلامة الجسم تعنى أن تكون جميع اللياقات سليمة فعاش فى شباب دائم.

ثم كان هناك برنامج سنوى ثابت مع شوقى، إذ كانا يقضيان الشتاء فى القاهرة، ثم يسافران إلى لبنان فى يونيو ويوليو، ويقضيان أغسطس وسبتمبر فى أوروبا، وفى باريس بالذات، وبهرته عاصمة النور والفن والجمال، ووجد نفسه فى عالمٍ جديد يزخر بصنوف الفن والثراء على كل المستويات.

إنهما يذهبان إلى الأوبرا والأوديون والمتاحف، ويسمعان الكونسير، فيبهر عبدالوهاب بالفن الفرنسى، الذى رآه ليس ترفًا ولا كماليات ولا زينة، إنه غذاء يدخل فى الحياة اليومية للناس، وجزء من الجمال داخل الحياة الفرنسية والعقل الفرنسى، وحتى الشارع الفرنسى، فظل يحافظ على هذه الزيارات حتى آخر العمر، ثم ورث عبدالوهاب عن شوقى تقديمه الفن على أى شىءٍ فى الحياة: (فنى هو شرفى وكيانى).

ثم تعدَّت علاقة شوقى بعبدالوهاب الوهاب الثقافة والفكر، فاعتبر نفسه أبًا له، وحين مرض أحضره إلى منزله، وأفرد له غرفة فى بيته (كرمة بن هانئ) للعناية الصحية به، وحين رحل أمير الشعراء فى أكتوبر 1932 ميلادية، دعا عبدالوهاب الأدباء والفنانين إلى الاشتراك فى إقامة حفل تأبين له بمسرح حديقة الأزبكية، وغنَّى عبدالوهاب لحنًا، نظم كلماته الشاعر أمين عزت الهجين، أودعه أحاسيسه ومشاعره لفقد أستاذه ووالده الروحى.

ثم يأتى دور زوجته الأولى زبيدة الحكيم، وهى ثريَّة أرستقراطية تكبره بعشرين عامًا، أكملت رسالة أحمد شوقى فى تعليمه فن الإتيكيت، ولقاء العظماء فى صالونه الخاص، واختيار ملابسه حين سفراته المتعددة معها إلى أوروبا.

ولقد التقيت محمد عبدالوهاب للمرة الأولى فى مصيف بحمدون فى لبنان خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضى، ثم تعدَّدت لقاءاتنا بعد ذلك فى باريس والقاهرة، وكان يدعونى كثيرًا لحضور بعض الأمسيات الثقافية بمنزله، حيث يجتمع أصدقاؤه من الأدباء والفنانين.

إن عبدالوهاب ولد عبقريًّا، خارجًا عن الزمان، وظل كذلك حتى يوم رحيله، فهو منذ بدئه إلى يوم انتهائه الجسدى سابقٌ لزمانه، وتجربته لا يُخمِدُ من نارها تغيُّر الزمان، فألحانه- جميعًا- جاءت انفعالا بالعصر والأرض والإنسان، ولقد تأثر بسقوط يوسف إدريس على الأرض، ويومها قال لطبيبه أخصائى المخ سيد الجندى (إننى أشعر بعدم الاتزان).

وحين يهتز عرش الجمال، ويقترب الأجل، تقوده المصادفة أو الإحساس الشفيف بقرب الرحيل، فيمسك عودَه ويلحِّن (أسألك الرحيلا)، ثم يرحل، وتصبح الأيام لا طعم لها، وتصبح الحقول لا لون لها، وتصبح الأشكال لا شكل لها، ويصبح الربيع مستحيلا، والعمر مستحيلا. وأستعير من أحمد شوقى: طُوى البساطُ وجفَّت الأقداحُ.. وغدت عواطل بعدك الأفراحُ.

رحم الله عبدالوهاب وهو القائل: (لا بد للفنان عند الله من مساحةٍ يعفيه فيها من القصاص).

loutskarim@hotmail.com