خرج علينا فى الآونة الأخيرة بعض أصحاب الأيديولوجيات فى صورة فتاوى وتحليلات، وأحياناً بشكل يوهم بأنهم عالمون ببواطن الأمور، يزعمون أن رئيس الدولة قرر الخلاص ممن يعتبرهم بقايا نظام ما قبل 25 يناير 2011، مستشهدين بالمستشار أحمد الزند، وزير العدل السابق، أملاً فى كسب الثوريين، والمزايدين، والحنجوريين وغيرهم.
بدا واضحاً أن هذه المزاعم، سواء كانت صحيحة أو مفتعلة، لم تستوعب دروس السنوات الخمس الماضية بأى شكل من الأشكال، لم تستوعب الدرس الأول منها، وهو أن السبب الرئيسى فى فشل الإخوان هو أنهم قد عزلوا، أو حظروا، أو أقصوا مَن كان قبلهم من النظام السابق، مثلما السبب الرئيسى فيما نحن فيه الآن أيضاً هو عزل وحظر وإقصاء مَن كانوا قبل ذلك، وإلا لما كانت كل هذه المبادرات الداخلية والخارجية معاً، على أمل انتشال البلاد من عثرتها.
إذا كان هذا التصور المزعوم حقيقياً فنحن أمام غفلة لم تأخذ فى الاعتبار أن أنصار ما قبل 25 يناير كانوا هم الأكثر فاعلية فى أحداث الثلاثين من يونيو 2013، وإذا كانت هذه الحقيقة خافية بشكل أو بآخر عن القيادة السياسية فلن تكون خافية أبداً عن الأجهزة المعنية، التى استعانت مسبقاً بأقطابهم، ورجال أعمالهم، وشبابهم، بل أموالهم، وكان ذلك واضحا فى كل محافظات مصر، أى لم يكن فى الخفاء، وبالتالى فنحن الآن نُسقط من الحسابات الأنصار الأكثر فاعلية لأحداث الثلاثين من يونيو، والتى جاءت بالرئيس إلى سدة الحكم.
أما إذا كان هذا الذى يتناقله أصحاب الأيديولوجيات غبياً وغير صحيح، وأن ذلك لا يدور بخلد القيادة السياسية، فإننا أيضاً أمام كارثة، وهى أن البعض من المُنظرين، الذين يعتبرون أنفسهم خبراء المرحلة، مازالوا يرون فى العزل والحظر والإقصاء طريقاً آمناً لنظام الحكم، أو أن ذلك ما يرغبونه، على اعتبار أن تحقيق أهدافهم من التقرب للسلطة لن يتم إلا فى مثل تلك الظروف المرتبكة، وبذلك فهم ينشرون هذه الشائعات كواحد من أساليبهم فى التأثير على صناع القرار.
ما أردت توضيحه هو أننا فى كل الأحوال أمام أزمة ثقة فى بعضنا البعض، المجتمعات لا تُبنى أبداً على الغدر، أو الخداع، أو الخيانة، كما لا تستقر أبداً بالعزل، أو الحظر، أو الإقصاء، كما ليس من حق أى أحد، أيا كان موقعه، ادعاء الوطنية أو المواطنة أكثر من الآخر، أو على حساب الآخر، وأعتقد أن ما شهدته مصر خلال الأعوام الخمسة الماضية كان كفيلاً بدحض كل تلك الخيالات، فمَن كان فى موقع ما قد ينقلب به المقعد بين ليلة وضحاها، وبالتالى يصبح خارج حسبة المواطنة، أو منظومة الوطنية، من وجهة نظر العقل الجمعى، الذى يستل سيوفه فوراً، على اعتبار أن ما حدث كان إيذاناً بالذبح.
مَن كانوا يخدمون مصر أيها السادة قبل 25 يناير قدموا كل ما لديهم بوطنية وشرف، ومَن خدموها بعد ذلك التاريخ أيضا قدموا كل ما يستطيعون بفاعلية وشرف، ليس من حق أحد أن يزايد على أحد، كما ليس من حق أحد أن يعزل أحداً، كما ليس من حق أى أحد أن يطالب بحظر أحد، أو إسقاط الجنسية عن أحد، مصر للجميع، بل هى للعامل الذى يكدح تحت شمس محرقة، أو الأرملة التى تكافح لتربية أطفالها، قبل أن تكون لهؤلاء المزايدين، أو أولئك الأفاقين، الذين يتصورون أن الأوطان يمكن أن تنهض دون تضافر جهود كل أبنائها.
إذن، ليست مريحة أبداً تلك الأوضاع التى تجعل المواطنين يرحلون عن وطنهم يوماً بعد يوم، أو التى تجعل هذا المواطن أو ذاك يُفضل وطناً بديلاً عن وطنه الذى وُلد وتربى ونشأ وخدم فيه، أو تلك التى جعلت الشباب يفضلون الهجرة دون رجعة، أو تلك التى جعلت الملايين يرغبون فى ذلك، إلا أن ظروفهم أو ظروف الهجرة ذاتها لم تساعدهم. باختصار: نتحدث عن الأوضاع التى لا يأمن الإنسان فيها على نفسه، سواء مع الإعلام، أو جهات التحقيق، أو القضاء، أو غير ذلك مما يكون مستترا، نتيجة تعليمات من هنا، أو توصيات من هناك.
ليس أمامنا أيها السادة، إذا كنا ننشد بالفعل الأمن والأمان، والتقدم والاستقرار، إلا أن نعمل على تحقيق العدالة والمساواة، وذلك بعدم الإسراف فى الإدراج بقوائم المنع من السفر، أو ترقب الوصول، أو تقييد الحرية لمجرد الشبهة، أو التشهير وتصفية الحسابات، أو الحظر والعزل والإقصاء، وأن نبدأ صفحة جديدة، قوامها الأفضلية بالعمل والإنتاج، أما إذا اعتمدنا على أن تهجير الناس هو الوسيلة الأضمن للبقاء فهذا قصور فى النظر، يؤكد أننا لم نستوعب الدرس الأول، ومن المؤكد أيضاً أن ذلك سوف يودى بالمجتمع- كل المجتمع- إلى طريق غير مأمون العواقب، على أقل تقدير.