طلب الحاكم من معاونيه خبيرا سياسيا جديدا يحل أزمته، وجاء الخبير من بلد بعيد، وجلس إلى الحاكم يسأله في هدوء «ما هي أزمتك؟»، أجابه «في الحقيقة أنني أحكم شعبا لا يحبني، ولا تعجبه سياستي في إدارة البلاد..»، قاطعه الخبير «ولماذا تريد أن يحبك الشعب وتعجبهم سياستك؟». رد الحاكم مندهشا «حتى لا يخرجوا عن الحكم أو يعارضوه بدرجة لا يتمكن رجالي من السيطرة عليها». فسأله الخبير «وهل يحب الشعب رجالك؟»، قال «لا! لا يحبون أي شيء يخصني».
همّ الخبير بالانصراف إنهاء للمقابلة وقال «فهمتك يا سيد شعبك، أنت تريد ما يطلبه مني الجميع، أن يقتنع الناس بكونك رجلا ناجحا ونبيلا، وأن يشعر الشعب أنهم يحكمونك ويراقبونك وليس العكس... تريد- أيها الحاكم- أن أصنع في ردائك جيبا كبيرا يتسع للشعب، يعيشون فيه كما يريدون وفي الوقت نفسه يظل تحت ذراعك الأيمن»، ابتسم الخبير وانصرف قائلا «هذا سهل جدا».
في اليوم التالي أرسل الخبير إلى الجرائد ومحطات الإذاعة والتليفزيون «أيها الإعلاميون الشرفاء، يشكركم الحاكم على دعمكم المستمر ودفاعكم عن قراراته، واليوم يطلب منكم ممارسة دوركم الرائد بكل حرية.. يرحب الحاكم بانتقادكم له، ومناقشتكم لسياسته وتقييمها بموضوعية. شكرا لكم». استجابت بعض الصحف والمحطات لرسالة الخبير، وانطلقت تخصص الأعمدة والصفحات للتعليق على قرارات الحاكم، وباتت المحطات تستضيف هؤلاء المهتمين بنقد السياسة العامة. لقد أحب هؤلاء دورهم الناقد، وتألقوا فيه. فيما صارت بعض الصحف والمحطات أكثر دفاعا عن الحاكم، تقدم تفسيرا لكل قراراته يبرز حكمة القرار وصوابه على المدى البعيد. هذه الصحف والمحطات تحب منتقدي الحاكم، لأنهم المادة التي تكتب عنها إذا لم تجد ما لا تكتبه عن الحاكم.
الإعلاميون صاروا أكثر شهرة، يشاهدهم المؤيد والمعارض للنظام السياسي، وصاروا أيضا أكثر ثروة، فأية كلمة – على أي مستوى من المعارضة أو التأييد للحاكم كانت- تدر دخلا. المعارضون السياسيون أيضا أصبحوا أكثر طموحا في تحقيق مطالبهم العامة، فبعد أن ظنوا السبيل لذلك هو تغيير الحاكم ورجاله ونظامه، بدا أن مجرد الضغط عليه سبيل أقصر. لقد تذمر المعارضون وحدهم من قبل واليوم يؤيدهم الإعلام، فلو أنهم والإعلام تذمروا سويا لأيدتهم الجماهير غدا. أما الناس، فأصبحت تشعر بالقوة، فقد أضحى بوسعها مناقشة قرارات الحاكم وانتقاده، حتى من لا يملك منهم وقتا للمناقشة والانتقاد، يمكنه شراء الصحيفة أو مشاهدة المحطة التي تنتقد نيابة عنه أو تدافع نيابة عنه!
استدعى الحاكم الخبير صارخا فيه «ماذا فعلت؟ّ! هل هكذا سوف يحبني الناس؟»، رد الخبير في ثبات «أيها الحاكم، دعني أنفذ خطتي كاملة أولا ثم اطرح على من الأسئلة ما شئت». صمت الحاكم لحظة، فاقترب منه الخبير يخبره بلهجة شارحة «تعرف.. الأطفال لا يأكلون حبات الجزر، لا يحبون الخضار ويجدونه صلبا على أسنانهم الصغيرة، لكنهم يحبون مربى الجزر جدا» نظر إليه الحاكم مستغربا، استطرد الخبير «النساء أيضا، يأنفون النفط والزيت، ربما أصلا لا يعرفون شكله وقطعا لن يحبوا رائحته، لكنهم يتهافتون على طلاء الأظافر وهو أحد مشتقاته..» قاطعه الحاكم في عصبية «لا أفهم قصدك! هل توصيني باستيراد هذه الأشياء؟» رد الخبير «لا، أنا أحاول أن أجعلك واحدا من هذه الأشياء.. إذا لم يحب الشعب الحاكم، فليحبوا أحد مشتقاته!».
بعد فترة، اجتمع الخبير برجال الحاكم، ألقى عليهم خطابا قصيرا :«أيها الرجال، بذلتم جهودا قيمة لحماية الحاكم وتأمينه، أشكركم عليها نيابة عنه، وأخبركم ببعض التغييرات» وواصل يسردها «أولا: سوف تستبدلون ملابسكم غامقة اللون بأخرى بيضاء، وسوف يضع الجميع على رأسه قبعة بيضاء لا يخلعها أحدكم أبدا». ووسط اندهاش الحضور استكمل «ثانيا: سوف تقضون يوما في الأسبوع في تقديم خدمات عامة للشعب، مثل توزيع الطعام، وزيارة دور المسنين والمرضى وغير ذلك. وثالثا: سوف نستبدل العلامات التي على أكتافكم بالورود والحمائم، ليصير هؤلاء شارات الترقي».
ظهر رجال الحاكم في الإعلام يقبلون أيادي المسنين، ويوزعون الطعام الزهيد الثمن على المحال، ويربتون على أكتاف المرضى، أحيانا يأتيهم المرضى إلى مقر عملهم حتى يربت هؤلاء على أكتافهم أمام الكاميرات. أصبح الناس يتحدثون عن الرجال ذوي القبعات البيضاء، كيف أنهم طيبون ومخلصون ومستعدون لحل أية أزمة. وأصبح لدى الإعلام مادة جديدة عن الحاكم، هل هو طيب مثل رجاله؟ أم أنهم في سبيلهم للخروج عليه؟!.
التقى الحاكم والخبير، فقال الأول «لا أعرف ماذا على أن أقول، هل أشكرك على أن جعلت الناس يحبون رجالي، أم ألومك على أنهم مازال كثير منهم ينتقدني». ابتسم الخبير وقال «ما عليك أن تقول شيئا، فأنا لم أنته بعد من تنفيذ ما لدي، عليك فقط أن تفعل ما سوف أخبرك به قريبا». بعد أيام اجتمع الاثنان مرة أخرى، بعدها مباشرة دعا الحاكم منتقديه إلى جلسة استماع يشرحون فيها اعتراضاتهم ويقدمون مطالبهم. مرة أخرى فرح كثيرون، الإعلام وجد أرباحا جديدة في طريق تغطية هذه الجلسة، ومنتقدو الحاكم استشعروا القوة والتمكين، إذ بدا أن مطالبهم تتحقق، فلم يسبق – في بلدهم- أن طلب حاكم الاستماع إلى منتقديه، والشعب كذلك صار سعيدا، فهناك شيء مسل تماما يسميه الإعلام «حراك سياسي»، هذا الشيء تجتمع حوله الأسرة للمشاهدة والتعليق وسط أكواب الشاي وأطباق الحلوى، ربما ارتفعت قليلا أسعار الشاي والحلوى!
انتهت جلسة الاستماع، أخذ الحاكم مطالبهم ونفذها دون مناقشة، وتضاعفت الفرحة. استدعى الحاكم الخبير وقال «شكرا لك أيها الخبير، لقد صار الناس يحبونني ويحبون رجالي، ويشعرون أنهم في حالة استثنائية من القوة.. لقد أصبحوا تماما كما وصفت لي، يشعرون أنهم هم الحكام». رد الخبير بابتسامة واسعة، واستدرك الحاكم «لكن ماذا بعد؟ هل أعقد مزيدا من جلسات الاستماع من فترة لأخرى؟»، أجاب الخبير «لا عليك، بالطبع سوف يظهر مزيد من المطالب، لكنها ستكون أقل من ذي قبل، سوف تقل أيضا حتى تصل إليك... سوف يناقشها المعارضون فيما بينهم، وفي الإعلام، وفي لقاءاتهم بالشعب، وعندما تصل إليك سوف تكون مربى جزر، لا حبة جزر!».