البلطجة لها أصول (1- 2)

مكاوي سعيد الأربعاء 16-03-2016 21:28

الكاتبة الصحفية الكبيرة «جاذبية صدقى» فى منتصف القرن الماضى استقطعت من عمرها عشر سنوات خصصتها للقيام بدراسات ميدانية عن الأحياء الشعبية فى مصر شمالا وجنوبا وطولا وعرضا، مع اهتمام خاص بأحياء القاهرة، وقد جالت وأقامت فى أغلبها فترات ليست بقصيرة، لتخرج لنا سلسلة كتب عن هذه الأحياء، وكلها كتب ممتعة فى الحقيقة، وفيها ملامح لكل حى، ومعلومات بعضها غريب لا يخطر على البال، وطرائف جغرافية وإشارات إنسانية. وآخرها الكتاب الخامس وعنوانه «من الموسكى إلى الحسينية». ولأننا كنا نسمع أو نقرأ قديما عن فتوات الحسينية: بطشهم وسطوتهم، فسأختار فقرات من الكتاب حتى تعيشوا بعض الأجواء الحياتية والنفسية لفكرة الفتونة والبلطجة فى ذلك الزمن «الخمسينيات».. مع العلم أن نظام الفتونة نفسه انتهى تماما بنهاية الخمسينيات وبقيت البلطجة.

لقد اكتشفت أن «الحسينية» هى فى حقيقتها شارع واحد! يقع فى «حى الجمالية»، وهذا الشارع الواحد يبدأ من «بوابة الفتوح» وينتهى عند مسجد سيدى «على البيومى»، ومع ذلك فإن شارع الحسينية قوى جدًا بسكانه، وله تاريخ وحساب كبير فى تقدير رجال الشرطة! دائما يضج بالحيوية والتوتر والترقب فى انتظار شىء ما.. أى حدث والسلام! فقد تقوم معركة ضارية إذا غازل زائر من حى آخر بنتاً من الحى، فأهل الحسينية يعتبرونها إهانة شخصية، ويصل الأمر إلى دخول نصف المتشاجرين إلى المستشفى، والنصف الآخر إلى ليمان طرة!.. وبجوار هذا الجزء العصبى من شخصية أهل الحسينية وجدت اللمسة الإنسانية.. فقد رفضوا جميعا إعادة ترشيح نائبهم فى مجلس الأمة لأنه بتعبيرهم «ما يتمرش فيه الخير»، ففى المرة السابقة زوجته أم أبنائه وحماته ساعدتاه مساعدة عظيمة وسهرتا فوق الصناديق تحميانها من أى تلاعب، وعندما فاز بالعضوية.. وجرت الفلوس فى إيده.. رفس زوجته أم أولاده ورفس حماته ورفس بيته وأبناءه، وتزوج شابة متفرنجة من مصر الجديدة وعاش معها هناك، فوقف أهل الحسينية وتضامن معهم أهالى حى الجمالية وأسقطوه فى المرة التالية.

وأهل الحسينية يفخرون بأن فيها بوابتين من أبواب القاهرة السبعة: بوابة الفتوح، وبوابة النصر. ويقولون إن الجيش وهو خارج للقتال كان يخرج من بوابة الفتوح وعندما يعود منتصراً يدخل من بوابة النصر.

وقد التقيت بمأمور حى الجمالية «العميد سيد النواوى» الذى عاشرهم بالمعروف ست سنوات، وفتح بابه للجميع، وعلى رأسهم «بلطجية» الحسينية المشهورون بالبطش، فأحبوه حبا شديدا. فلما نُقل إلى حى الدرب الأحمر ودّعوه بقصيدة تفيض بالمشاعر الحارة، وجعلوا لها إطارا مذهبا وعلقها المأمور فى حجرته فى إعزاز، ثم كتب أهل الحسينية قصيدة أخرى تهنئة لأهل الدرب الأحمر لوصول هذا المأمور إليهم! فلما بلغ وزير الداخلية ذلك أعاده إليهم بأمر رسمى، فاستقبلوه بقصيدة ثالثة مع الأغاريد وأكواب النور الملونة المتلألئة بطول الشارع. والمأمور يتحدث عن «البلطجية» بفهم وحنان كأنه يتحدث عن بعض أبنائه الذين ضلوا الطريق! فوجب الصبر عليهم. ويقول: البلطجى تأسره الكلمة الحلوة رغم شراسته، وكذلك المعاملة الإنسانية التى تشعره بإنسانيته، فتستطيع أن تقوده بها إلى حيث تريد، بشرط ألا تخدعه! وسألته: أليس بين «البلطجية» امرأة؟.. فأخبرنى بحكاية «أم شكرية»!.. وحكايتها سنوردها بإذن الله فى المقال المقبل.