الإثنين- قبل الماضى- حاولت «داعش» إقامة ولاية إسلامية فى مدينة «بنقردان»، عند المنطقة الحدودية بين تونس وليبيا، تقع بنقردان على بعد 14 كيلومترا من الحدود الليبية، وتمكنت قوات الجيش والشرطة التونسية من إفشال العملية، صحيح أن أفرادا من الجيش والشرطة، وكذلك من المدنيين، سقطوا «شهداء» فى هذه العملية، حوالى 14 شهيداً، ولكن تم دحر الإرهابيين وقتل حوالى خمسين منهم.
قبل أسبوع من هذه العملية فى تونس، كانت هناك عملية مشابهة حاول القيام بها بعض الدواعش فى مدينة «إربد» على الحدود الأردنية، وكانت المخابرات الأردنية يقظة، فأجهضت العملية مبكراً وقتلت الدواعش بمجرد عبورهم الحدود الأردنية، وقبل أن يشرعوا فى تنفيذ مخططهم.
وفى الذاكرة العملية التى حاول الدواعش، وإن كان اسمهم تنظيم «بيت المقدس»، فى مدينة الشيخ زويد على الحدود المصرية- الفلسطينية، كان ذلك يوم الأربعاء الأول من يونيو العام الماضى، ورغم الأنباء المضللة التى أذاعتها إحدى القنوات الكارهة لمصر، فى الساعات الأولى من العملية، عن نجاح الإرهابيين فى اختطاف سيارتين مدرعتين مصريتين، وتبين كذب ذلك، وفشلت العملية تماماً، ثم أذاع المتحدث العسكرى المصرى، فى نهاية اليوم، تفاصيل العملية، وكانت قاطعة بهزيمة ساحقة لهؤلاء الإرهابيين.
فى العمليات الثلاث سوف نلاحظ سمات مشتركة تعكس نمط التفكير لدى العقلية الإرهابية التى تحاول أن تحاصرنا، هم يركزون على المدن أو المناطق الحدودية، حيث يمكن أن تكون هناك مشاكل داخل هذه المدن، خاصة أنها بعيدة عن السلطة المركزية وتمثيل الدولة فيها قد يكون ضعيفاً أو هشاً، مدينة «بنقردان» تبتعد عن العاصمة تونس بحوالى خمسمائة كيلومتر، وأمكن الإرهابيون الانتقال إليها من ليبيا وتخزين الأسلحة بها، الأمر نفسه بالنسبة لمدينة الشيخ زويد، كان بها قوة عسكرية من 17 فردا فقط.
فى عملية «بنقردان» انتقل الإرهابيون من ليبيا، وفى الشيخ زويد جاء الإرهابيون من غزة، عبر الأنفاق إلى سيناء، على الأغلب.. نفس الشىء فى «إربد»، والمعنى هنا أن الإرهابيين لا يمكنهم أن يقيموا ويعيشوا حتى فى هذه المدن الحدودية، هم كالخفافيش تحط على هذه المدن المتباعدة، عن تصور أنها ساحة خالية أمامهم، وبمجرد أن يحلوا بها يقومون بعمليات اغتيال عنيفة بقصد الترويع للمواطنين الآمنين، فى «بنقردان» قتلوا قائداً أمنياً وهو داخل بيته، وفى الشيخ زويد قتلوا مواطناً أمام بيته هو وبعض أفراد أسرته، على مرأى ومسمع من الجميع.
هم يتصورون أن المناطق الحدودية سهلة المنال، يمكن من خلالها الحصول على مقر يرفعون عليه راياتهم، ومن خلاله ينطلقون إلى الداخل، أو يكون مرفأ يقدمون أنفسهم للعالم منه ويتفاوضون من خلاله، ويصبحون دولة موازية أو دولة أخرى تنهش الدولة الوطنية وتسعى إلى تقويضها، ليحل محلها الفوضى والعنف.
تكشف العمليات الثلاث أن «داعش» ومن معها من الإرهابيين يتبنون نموذج الإمارات والطوائف، التى تعكس مرحلة الضعف الشديد فى التاريخ الإسلامى، وأن ما يقولونه عن نموذج دولة الخلافة هو مجرد إطار دعائى يجتذبون به الأنصار والمؤيدين فقط، لكن لا يمكنهم تحقيقه، فى الواقع أنه غير قابل للتحقق فى هذا العصر، نموذج الإمارات والطوائف كان يتبنى التحالف مع الأجنبى «العدو» ضد أبناء البلد الواحد، حدث ذلك زمن الحروب الصليبية، عبر أكثر من قرن، وزمن انهيار الأندلس، هو نموذج الانهيار والضعف، وليس البناء الحضارى والثقافى والسياسى.
تؤكد العمليات الثلاث أن صمام الأمان ضد الدواعش ومن معهم هو وجود الدولة الوطنية، حتى لو لم تكن هذه الدولة فى أقوى وأفضل حالاتها، وحتى لو كانت مثقلة بالمشاكل والأزمات، الدولة التونسية تئن من أزمات اقتصادية بعد ضرب السياحة فى عمليتين إرهابيتين خلال العام الماضى، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذى انعكس على الوضع السياسى.
مصر كذلك تواجه حرب استنزاف على أكثر من مستوى ومثقلة بمشكلات اقتصادية عديدة، وتعاقب بسبب ثورتين مجيدتين قام بهما الشعب المصرى فى 25 يناير وفى 30 يونيو، الأردن كذلك متخمة بحروب على حدودها مع سوريا والعراق، ولديها مئات الآلاف من المهاجرين السوريين والعراقيين دون معاونة دولية حقيقية، ومع ذلك فإن هذه الدول الثلاث أمكن لها أن تفشل محاولات إقامة إمارات داعشية على حدودها.
وجود الدولة الوطنية يضمن تماسك المجتمع، على الأقل عند الحدود اللازمة والضرورية للبقاء وللوجود، مما يمنع تسلل وتغول جماعات التشدد والعنف.
وفى المقارنة بين هذه الدول الثلاث، وما جرى فى العراق وسوريا وليبيا، فإن الصورة تؤكد أن انهيار الدولة الوطنية شرط لتمدد الدواعش واجتياحهم المدن، وإقامة الإمارات والولايات، مثلما جرى فى «الموصل» بالعراق الشقيق، و«الرقة» فى سوريا الشقيقة أيضاً.
المعنى النهائى أن الإرهابيين ليس أمامهم سوى العمليات الفاشلة، وأن علينا الاهتمام بالمدن والمناطق الحدودية، حتى لا نسمح لهم بالتسلل إليها، والأهم من ذلك هو التمسك بالدولة المدنية الوطنية، لمواجهة الإرهابيين ونموذجهم التدميرى.
■ ملحوظة: فى مقال الأسبوع الماضى، ذكرت أن الانفصال بين مصر وسوريا وقع فى فبراير 1961، والصحيح أن الانفصال كان فى سبتمبر 1961 وليس فى فبراير، لذا وجب الاعتذار عن هذا السهو والشكر واجب لأهل العلم، الذين تفضلوا بكرم وأريحية بلفت الانتباه إلى ذلك.