أدعوكم للاستراحة قليلاً في كتاب مهم وطريف ومتخصص وعنوانه «الرحلة الفنية إلى الديار الفنية»، وهو متخصص لأنه صدر بمناسبة انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة في مارس وإبريل من عام 1932، وكانت الدعوة له من قِبَل الملك فؤاد الأول، وهو مهم لعدة أسباب، منها أن الملك استقدم لهذا المؤتمر علماء بالموسيقى الشرقية من أوروبا وآسيا وأفريقيا، كما دعا إليه موسيقيين مصريين وسوريين وأتراكاً وعراقيين وجزائريين وتونسيين ومغاربة، فناهز عدد أعضاء المؤتمر خمسين موسيقياً عالماً بالموسيقى الشرقية، كما حضره أشهر المستشرقين الأوروبيين المختصين بهذه الموسيقى. والكتاب مهم أيضاً لأنه يحكى رحلة سفر الموسيقيين المغاربة للمشاركة في هذا المؤتمر، التي نشرها على ست حلقات «أليكسى شوتان»، مدير معهد الموسيقى العربى في الرباط، المعروف بـ«دار الطرب» في جريدة «السعادة» الصادرة في الرباط 13 أغسطس 1932، والتى طبعت في كتاب مستقل في نفس العام. وترجع أهمية هذا الكتاب أيضاً إلى أن النسخ المطبوعة منه لم تتجاوز الخمسين نسخة! ولم تصدر له طبعة أخرى، ولا توجد منه إلا نسختان وحيدتان، تحتفظ بهما المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط؛ لذا يعد من نوادر المطبوعات التي يجب الالتفات إليها. وخصوصية الكتاب لأن نصوصه تتضمن إفادات: تاريخية وأدبية تهم بالقطع الدارسين لتاريخ الموسيقى العربية. ولحسن الحظ أن نسخة جديدة من هذا الكتاب توزع مجاناً على مجلة الدوحة الثقافية للشهر الحالى، وهى موجودة عند كل باعة الصحف المصرية. وطرافة الكتاب ترجع إلى أنه يقدم وصفاً رائعاً ومشوقاً للرحلة منذ بداياتها من الرباط في 5 مارس من عام 1932 حتى وصولها إلى القطر المصرى في 14 مارس من العام نفسه، وانتهاءً بالمغادرة في 5 إبريل.
وإليكم فقرات من هذا الكتاب الممتع: «بمجرد نزولنا إلى الإسكندرية، استقبلنا مندوب من وزارة التعليم العام، فذهبنا لزيارة المتحف الأثرى، ومن هناك إلى القطار الذي أقلنا إلى القاهرة، حيث استقبلنا مندوب آخر وقصد بنا نُزل (شبرد أوتيل)، وهو من أعظم النُّزل، فيه مكتب للبريد، وآخر للبنك، وغير ذلك من كل ما يحتاج إليه المُتسوّح. ثم ذهبنا لحضور حفل شاى، لأعضاء المؤتمر في حديقة معهد الموسيقى الشرقى، وهذا المعهد عبارة عن بناية فخمة شيّدتها مجهودات فردية، لكن الحكومة معترفة بها الآن، وهى تشمل قاعة للمحاضرات مزينة ومؤثثة على أبدع نظام، وغرفاً أخرى للدَّرس والمكاتب، ومتحف الآلات، ومقهى. ثم أخذ مصورو الصحف صوراً لنا، لأن فنّ الصحافة متقدم كثيراً في هذه البلاد، بحيث إن أمريكا، التي هي أول الأقطار من حيث كثرة السيارات بالنسبة إلى عدد السكان، لا تقدر على مضاهاة القاهرة في عدد الجرائد والمجلات الأسبوعية والشهرية وغيرها، باللغات: العربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، واليونانية... إلخ». لاحظ يا عزيزى القارئ أن الكلام على لسان الفرنسى «أليكسى شوتان».
وهذا مقطع آخر: «بعد الزوال، ذهبنا إلى مدينة هليوبوليس، وهى بلدة حديثة العهد، عدد سكانها 30 ألف نسمة، واقعة على أبواب الصحراء في شرقى القاهرة، وفيها قصور ومنازل عالية جميلة البناء، متسعة الشوارع، لها بعض الشبه بمدينة الرباط، غير أن هندسة بناياتها من الشكل الذي كان شائعاً قبل الحرب العظمى، وتوجد في هذه المدينة كنائس عديدة شامخة البناء من الإغريقية، والقبطية، والكاثوليكية، وغيرها من الملاجئ والمؤسسات الدينية كالأديرة والصوامع. ثم قصدنا زيارة الصحراء التي تبدأ من ضواحى هليوبوليس، وشاهدنا هناك غروب الشمس ثم عدنا إلى القاهرة».