أحاول، هذه الأيام، أن أنقل للذين يعنيهم الأمر فى بلدنا بعضاً من ملامح التجرية البولندية، خصوصاً على المستوى الاقتصادى، لعلها تكون مفيدة لنا، ونحن نفكر ونتحرك هنا!
وربما أكون مضطراً، وأنا أكتب عن تلك التجربة، فى هذه المساحة الورقية، أن أعيد تذكير أنفسنا، فى كل مرة، بأن لدى بولندا تجربة مشابهة لتجربتنا، ولا أقول مماثلة. وبالتالى، فإن علينا أن ننظر فيما هو مشابه، وأن نأخذ منه ما يضيف للأمور الاقتصادية تحديداً عندنا، ويقويها، ويضعها على طريقها الصحيح!
ففيما قبل عام 1991، الذى انهار فيه الاتحاد السوفيتى، كانت بولندا دولة شيوعية، لا تؤمن برأسمالية اقتصادية، ولا بأن القطاع الخاص يمكن أن يكون له دور فى مسارها الاقتصادى، لأن هذا المسار كله كانت الدولة تحتكره.. وفيما بعد ذلك التاريخ، صار العكس هو الموجود، وهو المطلوب، ولم تعد الدولة تحتفظ بملكية شىء من المشروعات العامة، سوى القليل جداً، ومن هذا القليل 31 شركة عامة فقط، يحددها دستورهم بالاسم، وما عداها هو للقطاع الخاص الذى يقوم بطبيعته على المبادرات الفردية، ويشجعها، ويدفعها إلى العمل دائماً!
غير أن السؤال المثار هناك، على مستوى اجتماعى واسع، هو: ماذا تحقق للناس فى عمومهم من وراء هذا التحول الاقتصادى الذى انتقل من اقتصاد له ملامح شيوعية اشتراكية، تملك فيه الدول كل المشروعات وتديرها، إلى اقتصاد مضاد، لا تملك فيه الدولة شيئاً من شركات العمل فى الإنتاج إلا قليلاً.. بل قليلاً جداً.. ماذا تحقق للغالبية من 38 مليون بولندى، هم مجموع عدد السكان؟!
هناك جوابان عن هذا السؤال، والجوابان مفيدان لنا جداً، لأنهما مطروحان لدينا، بشكل أو بآخر، وفى مناسبات مختلفة!
فجواب عندهم يقول: إن على الذين يتساءلون عن عائد عملية التحول، بالنسبة لعموم المواطنين، أن يقارنوا بين الحال، الآن، فى عام 2016، وبينه قبل عام 1991، أى فى أيام الشيوعية، وعندها سوف يكتشف هؤلاء المتسائلون عن العائد أن الوضع حالياً أفضل نسبياً، وبمعنى من المعانى!
لكن الجواب الآخر يقول: إن البولنديين لا يجب أن يقارنوا حالهم، فى هذه اللحظة، اقتصادياً، بحالهم هم أنفسهم، قبل عام 1991، ولكن عليهم أن يقارنوا بين حالهم، وبين حال الألمان، على الحدود الغربية المباشرة لهم، وعندئذ، سوف يكتشفون أن حال الألمان أفضل بمراحل، وأن أجر العامل فى ألمانيا، مثلاً، أربعة أضعاف أجره فى بولندا.. فهذه هى المقارنة الصحيحة، لا المقارنة الأولى بأى حال، حتى إن كان المتحمسون لهذه المقارنة الأولى من بين المسؤولين البولنديين، يحاولون دائماً تذكير مواطنيهم بأن الحد الأدنى للأجر، المتاح الآن، والذى يفرضه القانون، لم يكن موجوداً أيام الشيوعية، فهو حد لا يتيح الحياة الكريمة المطلوبة لكل مواطن، بمستوى آدمى!
فما هو الدرس لنا؟!.. الدرس أن نقارن أنفسنا، حين نقارن، بين الدول الأفضل حولنا، لا الدول الأقل حظاً، على أى مستوى.. فهذا هو ما يقول به العقل، ويقول به المنطق، وتطلبه طموحات الناس، ولا تقتنع بسواه!