أمسك قلمه ليخط سطورا عنها فلم يطاوعه القلم، فهو لا يألف سوى الحكايات عن مآسى الناس، الفرص الضائعة للشعوب، ألاعيب الحياة، كراهية الانحطاط والتدنى، الحق، العدل، الإنسانية، لم يدرك أن السابق سيتقهقر فتغلبه نفسه فيبدأ ليكتب عنها فقط.
يبدأ من أين.. هل يخلطه بالسياسة أم أن الحب هو فى حد ذاته سياسة؟ فن الممكن، فن الانتصار، فن المؤامرات، فن القهر، وهو أيضا فن السطوة، هل هناك ممكن؟ هل هناك نصر؟ هل هناك مؤامرة؟ هل هناك قهر؟ هل هناك سطوة معها؟ يتهرب من الإجابة ويصنع بالقلم قوسا كبيرا يشابه قلبا ويكتب بداخله «إنه الحب»..!
تتلاعب به الكلمات فى حين أنها كانت تستسلم له سابقا حتى وإن غالبته معاناة أو إصابة تعب، فهى تتفجر مثل ينبوع أريد له أن ينساب ليناسب خواطره، هل يترجم ذاته أم أنه يفك طلاسم خبيئة نفس ظلت حبيسة أحد الكهوف انتظارا للمكتشف، فهل سيحضر «روبنسون كروزو» ليضع تيمة لهذه القصة أم أنه سيشاهد ويضحك لأن تلك الخبيئة «الكنز» لن تشغله، ومن ثم لن يفارق أوراق روايته لأنه لن يأبه لمثل هؤلاء الحيارى الذين يبحثون عن مقاربة لمشاعرهم بل تراه سيقول آسفا: مالكم تنسون إدراككم لأشياء وتهربون إلى أخرى عديمة القيمة.. إنه هراء..!
لم يهتم بما قال «روبنسون»، فقد شغلته تلك الروح التى انقضت على أحاسيسه لتلتهمها كما يفعل ذئب برى ولكن بسعادة لم يرها فى عيون مثلها من قبل، هل يخترع فعلا للمقاومة كما تفعل الممالك القديمة؟ هل يصنع سياجا حتى لا ينقض عليه الذئب مرة أخرى؟ هل يجهز قواته ليصنع درعا يقيه من أنياب تلك الروح التى خطت جروحا غائرة فى النفس وصارت مصدرا للعذابات؟ هل يستمع لذلك الصوت الذى ينبعث من داخله ينكر عليه تلك العذابات ويأمره بالاستسلام قائلا: إنها هى هى..!!
يشير إليه قائد جند قلبه: فليكن خندقا نضع فيه كل ميراث الكراهية والغدر والغش والخداع، يمنحنا مناعة من الهجوم، يخرج من بين الجند من يذكر بـ«صوت الاستسلام»، ينهره آخر ويعيد تجسيد المنبعث «ليوناردو دى كابريو»، لابد أن نقاوم، فالاستسلام سيؤدى بنا إلى جحيم لا يناسب لحظة المصير ولا ينفع فى أيام الشك وغيبة اليقين، ويدفع بنا إلى أوهام الرفاهية للحديث عن ذوات تحب فى عالم بلا مشاعر..!
فلنعلن أحكاما عرفية، ومن يتسلل من ساحة القلب يجرى اعتقاله بل شنقه على مقصلة الواقع، فإنها جاهزة بحدة شفرتها وقسوة جلاديها، سنقتحم بيوت المترددين والمتعاطفين والمشتاقين والشاعرين بالوحدة بين شرايين القلب، لن نسمح لأى منهم أن يهرب إلى الجهة الأخرى أو يلعن لجوءا سياسيا إلى تلك الروح، بل سنخاطب العالم ليعتقل ذلك القلب الذى يغازل ويدغدغ تلك الذات المتعبة والمنهكة الخاوية من الحب..!
لم تفلح محاولات الجند ولا قائده ولا حاكم القلعة أن يجابه تلك المشاعر التى حاصرت النفس وتسلقت أسوار القلب، ودفعت إليه بما لم يتوقع فصار مثل طفل لا يرى عندما تلمسه سوى «البوح»، نسى معركته ورمى سلاحه وألقى بدرعه تحت قدميها، وأخذ يغزل مهتديا بـ«نزار» شيئا عن العشق «أريد أن أحبّك.. حتى أستعيد الأشياء التى تشبهنى والأشجار التى كانت تتبعنى»، عشق من نوع آخر، عشق لذات أجرمت فى حق النفس لأنها اقتحمتها رغم المقاومة، اجتاحتها رغم التعزيزات، سلبتها المنعة رغم القوة، عبرتها رغم الموانع، هل يصلح فعل الإجرام للوصف، نعم يصلح فما فعلته هو جريمة لأنها تأخرت كثيرا على ذلك الذى كان ينتظر ويصنع فى خيالاته أحلاما عنها ويرسم ملامحها فى فضائه ويلمحها على صفحة ماء أو عندما تهب رياح باردة تداعب وجهه وتخترق رئتيه، إنها هى كما انتظرها، هل هى ملكة؟ لماذا وضعت وشاحها على ثناياه؟ لماذا اندفع ليكتب عنها تلك الكلمات؟ لماذا يشعر معها بأنه على حاجز بين الحياة والخلود؟، وفجأة أفاق وعاد ليكتب مرة أخرى «لماذا نعيش هكذا فى دنيا لا نعرفها؟» وعندها علا الصوت مرة أخرى من داخله «إنها هى هى.. إن حكمت جارت على بحكمها ولكن ذلك الجور أشهى من العدل»..!
نص على هامش الرحلة..
إهداء إلى رفيقة العمر..