«اتبعوا نباح كلابكم» هذا ما طالب به الخبير الدولى هريناندو دى سوتو فى كتابه الأشهر «سر رأس المال»، وهو يدعو إلى تسهيل تسجيل الملكيات وإصدار التراخيص حتى يتمكن أصحاب الأصول والمشاريع غير الرسمية من الحصول على التمويل والخدمات، معتبرا أن ذلك كان عاملا ثوريا فى انطلاق الرأسمالية فى أوروبا والولايات المتحدة وأن غياب تسجيل الملكيات هو سر عدم نجاح الرأسمالية فى الدول الأخرى. ويشير دى سوتو، بمقولته الذكية والتى سمعناها منه فى لقاءات له بمصر منذ سنوات، إلى أن الكلاب محدد جيد للملكية فى الريف، حيث تقوم بالنباح على من يعبر أمام حقل صاحبها،
ثم تتوقف بعد مروره من حد الأرض. وفى الفصل الخامس من كتاب «الرأسمالية الطيبة والرأسمالية الخبيثة»، الذى نعرضه اليوم إشارة موسعة إلى دى سوتو ونظريته وإلى عوامل أخرى أساسية وغيرها فرعية تؤثر بشدة على نجاح المشاريع الريادية فى أى رأسمالية من الأنواع الأربعة التى عرضناها فى الحلقة السابقة وإن كان الكتاب يركز هنا على ريادية الأعمال فى الاقتصادات المتقدمة التى تجمع بين الشركات الريادية والشركات الكبيرة، وفى مقدمة العوامل الأساسية استقرار الملكيات وحماية البراءات وتشجيع البحث ومكافأة المبتكر بسخاء، بل ومكافأة المقلد الناجح (فى الاقتصادات التى لاتزال تتطور) وضمان استمرار التنافس على الابتكار وتسهيل بدء الأعمال،
وكذا تسهيل الخروج من الأسواق (الإفلاس)، لأن المشاريع الريادية لا تنجح عادة من المرة الأولى وتحتاج أكثر من غيرها إلى إجراءات خروج ميسرة حتى لا يضيع رأس مال صاحبها. أما العوامل الأخرى فهى التعليم والثقافة والديمقراطية واستقرار الاقتصاد الكلى - كما يقول كتابنا.
قبل أن نستعرض تلك العوامل مع المؤلفين نشير إلى أن مفهوم ريادية الأعمال لايزال جنينا فى مصر ويخلط البعض بينه وبين المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بل ويتخذ البعض من الحديث عنه سبوبة لأكل العيش أو تكئة للظهور والحصول على تمويل، كما أن المؤسسات الرسمية والتشريعية لا توليه العناية التى يستحق، مع أن من المسلم به أن مصير النمو فى بلد كمصر يتوقف على إطلاق طاقة هذا القطاع وأن مؤشرات ريادية الأعمال العالمية تقول إن الشعب المصرى يساهم بكل فئاته فى الابتكارت الخاصة بالأعمال (تذكر المشاريع من مؤمن وأبو طارق وأبوخالد إلى شركات الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات الصغيرة البالغة الحيوية)، أى إن المصريين ليسوا عجبة بين الامم التى تبتكر وتنطلق،
ومن المهم أيضا التأكيد على أن المشروع الريادى مقصود به كل مشروع يبتكر أو يتبنى فكرة جديدة ويحولها إلى سلعة أو خدمة أو يقوم بإحداث تطوير جوهرى فى سلعة أو خدمة قائمة وبذلك فإن ريادية الأعمال لها علاقة وثيقة بالتنمية، بينما المشروعات الصغيرة والمتوسطة التقليدية تهدف بالأساس إلى فتح البيوت وإيجاد فرص عمل.
يميز كتابنا بين ما يسميه النمو الذكى، الذى يعتمد على الابتكار، والنمو بالقوة الغاشمة، الذى يعتمد على مجرد مراكمة عوامل الإنتاج (رأسمال + أرض + عمالة)، أى الذى يركز على الإضافات الكمية لا النوعية والاهتمام «بالحجر لا بالبشر»، بلغة الدكتور ميلاد حنا.
يقول الكتاب إن جمع الثروة كان الهدف الرئيسى للمغامرين من البشر طيلة معظم فترات التاريخ المسجل، وعبر جل المجتمعات. وقد انتهجوا فى ذلك أحد سبيلين، وهما: زيادة حجم الكعكة والحصول على نصيب عادل منها، أو مجرد الاستيلاء على قطعة أكبر من الكعكة، سواء كبرت أم ظلت على حالها. وحتى حقبة الثورة الصناعية كان الخيار الثانى – إعادة توزيع ما هو موجود بالفعل– هو السبيل الأكثر شيوعًا والمفضل إلى حد بعيد، ببساطة لأن الاستيلاء على الثروات من الآخرين الأضعف يبدو الحل الأسهل،
فالواقع أن العنف كان يُنظر إليه على أنه نشاط رجولى وبطولى عندما تتكالب الأخطار متربصةً من كل جانب. هذا فضلاً عن أنه فى مثل تلك البيئة لا يُطمأن كثيراً إلى أن ثمرات السبيل الآخر للحصول على الثروة – أى المساهمة فى الإنتاج ونمو الاقتصاد – ستؤول جلها - أو حتى نسبة يعتد بها - إلى الأفراد الذين أخذوا على عاتقهم بذل تلك المساهمة.
وفى عصر الثورة الصناعية وما بعده ظهرت مؤسسات جديدة حجَّمت خيارات المغامرة بانتزاع الثروة وحدت من مكاسبها، مع توفيرها - فى الوقت نفسه - مكافأة ومكاسب مؤكدة للفرد المغامر، الذى يساهم فى نمو الاقتصاد. لو نظرنا إلى الموضوع على هذا النحو فسيتضح لنا أن تلك التغيرات الثورية فى بنية المحفزات كانت تحمل الحظ السعيد للمجتمعات التى شهدت الثورات التكنولوجية.
ويؤكد الكتاب أن كل الاقتصادات تحتاج إلى درجة من ريادية الأعمال لخلق تجديد جذرى، كما أنها تحتاج أيضًا إلى شركات كبيرة فعالة لضبط هذا التجديد وتسويقه على نطاق واسع.. ويرى أن الاقتصاد القائم على ريادية الأعمال يجب أن يكون فيه رياديو أعمال، وليس أى رياديى أعمال، بل المبتكرون منهم. ويذهب إلى أن هناك ثلاثة شروط مسبقة يجب توافرها لإفراز هذه النوعية من رياديى الأعمال. إلا أن هناك أمرًا على القدر نفسه من الأهمية، وهو أن الاقتصادات القائمة على ريادية الأعمال ينبغى أن تمتلك وسائل لضمان الالتزام المستمر لرياديى الأعمال الناجحين، عندما يتحولون إلى شركات كبيرة، وإلا أوشكت رأسمالية الشركات الكبيرة على أن تصاب بتصلب الشرايين.
ويدعو الحكومات المعنية لتشجيع إقامة مشروعات ريادية مبتكرة إلى خفض تكاليف «الإجراءات الرسمية» (تسجيل المشروعات والملكيات وتسهيل توظيف العاملين وفصلهم)، وأن يكون لديها نظام إشهار إفلاس فعال، وأن تسهل تشكيل القطاع المالى الرسمى ونموه، إذ إنه القطاع الذى يضخ الموارد لرياديى الأعمال المبتكرين.
ركز الكتاب على تعبير «رسمى» فى متطلبات تسجيل المشروعات، لأن ريادية الأعمال حية نشطة فى بعض الاقتصادات النامية ولكن بشكل غير رسمى، أو دون كل الموافقات الرسمية اللازمة، وذلك لأن العمليات الرسمية تستهلك الكثير من الوقت والمال.
وقد قام هرناندو دى سوتو Hernando De Soto- فى أواسط الثمانينيات- بتوثيق وطأة تلك المشكلة فى بيرو، وذلك فى كتابه الأول (The Other Path, De Soto, 1989). فقد حاول دى سوتو وزملاء فى معهده بليما أن يؤسسوا أحد المشروعات، فسعوا للحصول على الموافقات اللازمة، ليكتشفوا أن الحصول عليها استنفد منهم قرابة ثلاثمائة يوم، وذلك مع دفع الرشاوى للمسؤولين فى كل المراحل. وكان دى سوتو قد دُعى، وزملاؤه، إلى بلدان نامية أخرى قبل تأليف الكتاب وبعد تأليفه، ليكتشفوا وجود فترات انتظار مماثلة أو أطول (مصحوبة بالفساد أيضاً).
ولكن، حتى ولو كانت حجة دى سوتو مبالغاً فيها، فقد أصابت الهدف، بل وأصبحت - على نحوٍ ما - الحكمة التقليدية فى دوائر السياسة الدولية. وحول حماية الإفلاس يقول الكتاب إن من العوامل المهمة الأخرى - غير المباشرة - فى تكاليف دخول السوق، تكلفة الخروج أو الفشل. فقد كان الإفلاس -فى معظم المجتمعات وطوال فترات التاريخ - سبباً فى الخزى والعار، إن لم يكن جريمة يستحق المفلس فيها قضاء عقوبة فى السجن. ولكن الولايات المتحدة وبعض البلدان الأخرى تبنت نهجاً أكثر استنارةً تجاه المدين غير القادر على تسديد ديونه عند استحقاقها (أحد تعريفات الإفلاس).
فحسب النص القانونى الذى يستند إليه، يتم إعفاء من «يشهر» إفلاسه من بعض الديون، بشرط أن يوافق على تسديد ما بقى منها بعد إعادة جدولتها. إن توفير الحماية الفعالة للإفلاس من العوامل الحاسمة فى دفع ريادية الأعمال، إذ بدونها قد يحجم العديد من رياديى الأعمال المحتملين عن المخاطرة بالبدء، لعلمهم أن الفشل قد يعنى خسارة كل شىء، بالإضافة إلى تحمل العار الاجتماعى المقترن بإشهار الإفلاس.
أما الحصول على التمويل بسهولة، فهو العامل الأساسى الثالث المؤثر فى بدء معظم الأعمال.
إن ما جعل النظام المالى الأمريكى مشجعًا على إفراز ريادية أعمال مجددة هو أنه طور مؤسسات تولت تمويل نمو المشروعات المجددة. وربما يكون أشهر تلك المؤسسات لدى القارئ «صندوق رأس المال المخاطر»، والذى أُنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يزدهر إلا فى أواسط السبعينيات عندما سمح الكونجرس لصناديق المعاشات والعديد من المنظمات غير الربحية (بما فيها الجامعات والمؤسسات) باستثمار نسبة محدودة (تصل إلى 5%) من أصولها فى هذا النوع من الصناديق. يؤكد الكتاب أهمية حكم القانون وحقوق الملكية واستقرارها وحقوق التعاقد وضرورة تحاشى فرض ضرائب مرهقة.
فحقوق الملكية محفز إيجابى قوى بالنسبة لريادية الأعمال المنتجة، ولكن ربما يساويها فى الأهمية تقليص المثبطات التى قد تثبط مثل هذا النشاط. وتعد الضرائب من المثبطات الواضحة لريادية الأعمال المنتجة، بل ولأى نشاط، لكن الواقع فى المقابل يشهد بأن الضرائب أمر أساسى فى أى مجتمع حر، فيجب أن تكون هناك وسائل إجبارية لتوفير ما يلزم من سلع عامة أساسية.
يؤكد الكتاب أيضا أن وجود القواعد (أو إلغاءها) يمكن أيضًا أن يكون قوة مؤثرة فى محفزات ريادية الأعمال. ففى الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت قواعد تسعير خدمات الاتصال الدولى، ونقل البضائع والأفراد، وبعض أشكال الطاقة تهدف إلى تحاشى الاستفادة من الاحتكار، وذلك بفرض سقف على الأرباح، يتحدد حسب معدلات العائد على الاستثمار، ويصعب على المرء تخيل نظام أقدر من هذا على تشجيع عدم الكفاءة والإهدار وتقليص محفزات الابتكار.
فهذا النظام لم يعفِ المؤسسات من أى عقوبات على إهدار المال فقط، بل وكافأها على هذا الإنفاق، لأن سقف الأسعار كان يتحدد على أساس زيادة معينة على التكلفة. فلما تخلت الولايات المتحدة عن أشكال «قواعد مكافحة الاحتكار» هذه – نتيجة الاعتراف بأن تلك الصناعات لم تكن احتكارية – دخلت مؤسسات جديدة وأُجبرت المؤسسات القائمة، التى تتميز بقلة الكفاءة، على الخروج من السوق أو الانكماش، وتحسنت فاعلية تلك القطاعات، إذا ما قسناها بزيادة الإنتاجية. ويلمح الكتاب إلى قول العالم الشهير إسحق نيوتن: «لو أنى أرى أبعد من الآخرين، فما ذاك إلا لأنى وقفت على أكتاف عمالقة».
ليوضح أن الأمر نفسه ينطبق على رياديى الأعمال المبتكرين، أو أى مخترع، فالمبتكر فى النهاية يبنى على أعمال سبقته والقفزات التكنولوجية تحدث فقط عندما يتم جمع الأفكار والمنتجات ذات الصلة - والموجودة فى السوق بالفعل - معاً بأساليب جديدة. ويبنى على ذلك أن هناك حدودا لمكافأة الجديد ثم يقول: قدَّر ويليام نوردهاوس ما يحصل عليه المخترعون من إجمالى المكاسب الاجتماعية لمخترعاتهم بما لا يتعدى 3%، ولكن برغم ضخامة الفائض هذه، تظل براءة الاختراع ملكية يُحتفى بها، وبالتالى يجب أن تستمر فى لعب دورها كقوة دفع مهمة لتحفيز الابتكار.
بل إن تلك القوة توشك أن تكون أقوى من اللازم، فلو زادت سهولة الحصول على براءات – بمعنى منح براءات لتطويرات ليست تجديدات حقيقية ولكن تطويرات «واضحة للجميع» وبالتالى لا تستحق حماية قانونية - سوف يؤدى ذلك إلى أن يصبح المجتمع مشجعًا لاحتكارات «مؤقتة» أكثر من اللازم، وبالتالى سوف تثبط هذه البراءات، التى مُنحت عن غير وجه حق رياديى الأعمال من أصحاب الأفكار الجديدة بالفعل والذين يستحقون الحماية.
ويواصل الكتاب سرد شروط ازدهار ريادية الأعمال فيقول: تستطيع الحكومات أن تلعب دورًا مهما آخر يتمثل فى تحفيز الأفكار التى سيقوم رياديو الأعمال فيما بعد بتسويقها، وهذا الدور هو: تمويل البحوث العلمية الأساسية. فعلى الرغم من أن فهم الأساسيات العلمية نادرًا ما يجد سبيله سريعًا إلى السوق، فإنه يوفر أحجار البناء للبحوث التطبيقية التالية التى تفضى، بدورها، إلى منتجات تجارية. فأشباه الموصلات، على سبيل المثال، لم يكن لها لتظهر دون وجود معرفة أساسية فى مجالات الذرة، وبنية الجزىء، وما إلى ذلك.
ولا ينبغى أن تكون كل الأفكار التى تأتى بها الأعمال المبتكرة جديدة بالضرورة، بل يمكن أن تكون جديدة فقط فى بيئة معينة أو فى مواقع معينة. فليس من الواقعية فى شىء أن ننتظر من دول فى مراحل التنمية الاقتصادية الأولى أن تنمى اقتصادها بتوليد أفكار لمنتجات جديدة، فى حين أن الأسهل والأقل كلفة بالنسبة لها أن تكيف تكنولوجيات ومنتجات مستخدمة بالفعل فى أماكن أخرى على استخدامها المحلى وهذا النوع من التقليد يستحق المكافأة هو الآخر.
أما الشرط الرابع للنمو فى القمة، وبعبارة لويس كارول المعبرة، فهو: ينبغى أن يكون الهدف هو ضمان أن يعدو الفائزون فى سباق المنافسة بأسرع ما يستطيعون، حتى يحافظوا على موقعهم. فإذا غاب هذا النوع من التنافس، اكتفى الفائزون، أغلب الظن، بما حققوه. ولو حدث ذلك لتباطأ الابتكار أو ربما توقف، وكذلك الحال مع النمو نفسه.
كيف يمكن إذن الحفاظ على دافعية الفائزين فى سباق التنافس، سواء تدريجى أو بشكل جذرى؟
أو كيف يستطيع المجتمع، على الأقل، أن يتحاشى الإعاقة التى قد يفرضها الفائزون فى إحدى دورات التنافس الاقتصادى على الجيل التالى من رياديى الأعمال، الذين قد يتفوقون على الفائزين السابقين .
إن التنافس مع الواردات يمكن أن يدفع المؤسسات المحلية -التى ربما تملكها الكسل- إلى المشاركة بنشاط فى الابتكار، ولو أردت على ذلك الدليل، يكفيك أن تنظر إلى صناعة السيارات الأمريكية، التى كانت تهيمن عليها بعد الحرب العالمية الثانية ثلاث شركات ضخمة (وشركة صغيرة)، فى تلك الأيام كان المستهلك المحظوظ هو الذى تعيش سيارته لأكثر من ثلاث سنوات، لأن سيارات تلك الفترة لم تكن تُصنَع لتعيش مدة طويلة ولا لتوفر فى استهلاك الوقود، ولكن عندما ضربت أزمة النفط الأولى العالم فى 1973-74، كان المستهلك الأمريكى أكثر من مستعد للاحتفاء بالواردات اليابانية، التى كان يُنظر إليها نظرة دونية فى السابق، والتى كانت أكفأ بكثير فى استهلاك الوقود، كما تبين أنها أفضل فى نواحٍ عديدة أيضًا.
لقد أيقظت الواردات اليابانية المصنعين الأمريكيين فبدءوا يحسنون فى نوعية سياراتهم وكفاءتها فى استهلاك الوقود.
بيد أن شركات السيارات الأمريكية انخرطت فى الممارسة القديمة، المتمثلة فى استغلال القوانين، ردًّا على التهديد اليابانى، واستطاعوا إقناع صنّاع القرار الأمريكيين (إدارة ريجان المنادية بالسوق الحرة بالطبع) بوضع «قيود مقصودة» على الواردات اليابانية خلال الثمانينيات. لو كان ظن صُنَّاع السيارات أن ذلك سيريحهم من الضغوط التنافسية، فقد جاءت النتيجة مخيبة للآمال بشدة، ذلك أن شركات السيارات اليابانية عندما واجهت التقييد على صادراتها، لجأت إلى إنشاء مصانع لها هنا (فى أمريكا).
وبعبارة أخرى، أثبتت تجربة الولايات المتحدة أنه حتى الاقتصادات التى تتمتع بما يسمى القمة التكنولوجية، تستطيع الاستفادة كثيراً من الأبواب المفتوحة على السلع، والأفكار، والبشر.
وبالإضافة إلى المكونات الأربعة التى استعرضها الكتاب، يشير إلى أربعة عوامل أخرى جرى التأكيد عليها بوصفها عوامل جوهرية للنجاح الاقتصادى فى القمة، وهى: الثقافة، والتعليم، واستقرار الاقتصاد الكلى، والديمقراطية. ولشرح ذلك يوضح أن هناك بلداناً تنمو بمعدلات أكبر من بلدان أخرى، لأن ثقافتها أكثر تشجيعًا على النمو، وهو ما يعنى ضمنيًّا أن الثقافة هى الخصيصة الحاسمة فى نجاح ريادية الأعمال.
وتتقاطر الأدلة من بقاع العالم على التأثير الكبير الذى يمكن أن تحدثه - بل والذى أحدثته بالفعل- المؤسسات فى الثقافة (أو كما يقول الاقتصاديون: الثقافة «ذاتية النشوء»). ويصدق ذلك على وجه الخصوص فى حالة الشعوب التى كان يعتقد أنها كسولة وغير مؤهلة لمغامرات ريادية الأعمال، فتجدها وقد تحولت إلى شعوب تصنيع وابتكار بمجرد أن توجد المحفزات التى تكافئ على تلك الخصال.
ولننظر فقط إلى التحول الذى شهدته أوروبا الشرقية، أو إلى تاريخ اقتصادات جنوب شرق آسيا بعد الحرب، أو فلننظر فى التحول الملحوظ نسبيًّا نحو ريادية الأعمال فى روسيا، ذلك البلد الذى اعتُقد أن أكثر من سبعة عقود من الحكم الشيوعى قد أتت فيه على جذوة روح المشروعات.
أيضا فإن من الواضح للجميع - وربما لغير الاقتصاديين على وجه الخصوص - أنه كلما ازداد التعليم فى المجتمع، أو بالأحرى كلما زادت مهارات قوة العمل، سار النمو على نحوٍ أسرع.
على أن هناك مشكلة واحدة تعترض هذا التركيز على التعليم، بوصفه مفسرًا رئيسيًّا لاختلاف معدلات النمو باختلاف البلدان. فعندما حاول العديد من الاقتصاديين أن يتوصلوا إلى علاقة إحصائية بين عدد سنوات التعليم والنمو الاقتصادى (مع تثبيت العوامل الأخرى المؤثرة فى النمو) فى مختلف البلدان، لم يستطيعوا التوصل إلى تلك العلاقة. وقد تكون معدلات التعليم تحسنت بالفعل فى تلك البلدان، لكن الفساد والعنف العسكرى، وعوامل أخرى، أتت على أى تأثير يمكن أن يحدثه تحسين التعليم على النمو.
وينتصر الكتاب لاستراتيجية التعليم الشامل للجميع، كما جرى فى كوريا وتايوان ويراها أكثر عدالة من نهج استهداف شرائح معينة، كما حدث بالهند، ويرى فى النهاية أن من المرجح أن يصبح التعليم عاملاً أكثر أهمية بالنسبة للنمو فى المستقبل، خاصةً فى اقتصادات القمة.
ومن جهة استقرار الاقتصاد الكلى (معدلات النمو والادخار والاستثمار والبطالة والصادرات والواردات وسعر العملة وعجز الموازنة إلخ) يقول الكتاب إن الفكرة الرئيسية فى ذلك هى أن الدول لو استطاعت أن توفر الاستقرار لسياسة الاقتصاد الكلى، فستكون أقل عرضة للأزمات المالية الدورية، وفى غياب الأزمات ترتفع حظوظها من النمو.
وأفضل سبيل لتحقيقه يكون من خلال نوع من المزج بين الرصانة فى الميزانية (عجز قليل -إن وجد- نسبةً إلى الناتج الإجمالى المحلى)، وسياسة نقدية غير تضخمية، وكذلك -منذ الأزمة المالية الآسيوية- درجة من المرونة فى أسعار الصرف (وإن فشلت فى تحقيق ذلك، فلا أقل من زيادة احتياطيات النقد الأجنبى).
هناك تراث طويل مزدوج الحزبية فى الولايات المتحدة يرى فى الديمقراطية - الانتخابات الحرة وحكم القانون - أفضل شكل للحكم، كما طلب الاتحاد الأوروبى من أعضائه الجدد، أن تكون لديهم ديمقراطيات فعلية قبل أن يندمجوا فى الاتحاد اقتصاديًّا. ومع ذلك، فهل الديمقراطية جوهرية بالفعل لإرساء المكونات الأربعة الأساسية للنمو فى القمة؟.. يصعب علينا أن ننكر أهمية الديمقراطية للنمو، فمن شأن الحرية السياسية أن تحسن من الحرية الاقتصادية، خاصةً بما توجده من تحاشٍ لإلغاء القواعد المساندة لريادية الأعمال لمجرد أن الحاكم المطلق غير رأيه فيما يراه أفضل بالنسبة للاقتصاد.
هذا بالإضافة إلى أن الديمقراطيات الناجحة ترفض فى العادة الرأسمالية الأوليجاركية، بما أن قادة المجتمعات الأوليجاركية لا يستطيعون الاستمرار لو قدموا قطعًا أكبر من الكعكة المستمرة فى التقلص إلى حفنة صغيرة. فالديمقراطيات عادةً ما تسيرها حاجة قادتها للاستمرار فى السلطة والاتساع بحجم الكعكة نفسها، أى تحسين النمو الاقتصادى.
ولكن، هل تعد الديمقراطية ضرورية لهذه النظم؟.. تشى التجربة بالنفى، فالنمو الاقتصادى الملحوظ للصين يشهد على حقيقة أن ريادية الأعمال يمكن أن تزدهر فى ظل نظام سلطوى. ولكن هل كان للنمو الصينى أن يسير بخطى أسرع فى ظل الديمقراطية؟.. ربما تكون الإجابة بنعم.
باختصار، ينتهى هذا الفصل إلى أن على الحكومات أن تسهل على رياديى الأعمال أن ينشئوا مشروعات، ويجب أن تضمن حصولهم على مكافآت سخية عندما ينجحون، وعليها أيضًا أن تثبط بشدة «ريادية الأعمال» غير المنتجة، وأن تتأكد من ألا يُسمح لرياديى الأعمال، أو خلفائهم، أن يستكينوا، بل أن يُدفعوا دائمًا للاستمرار حتى يستمروا فى الابتكار والتسويق. لا يبقى إلا القول بأن مفاجأة أخرى فى الطريق إلى قارئ «المصرى اليوم» وتتمثل فى حوار مع محرر الكتاب الرئيسى، وبعده هناك أيضا ما سنقوله ونفعله حول هذا الكتاب المهم.