التجارة السوداء والواقع المصري الشحيح

محمد عبد الخالق مساهل الخميس 10-03-2016 21:28

إذا جاز لي أن أقدم تلخيصا صارما لأزمتنا المالية الحالية، فإني أوجزها في كلمتين اثنتين، هما «شح الواقع»، إنه بالمفهوم النفسي، هذه المرة، يعني عدم القدرة على تلبية الحاجة المُلحة للمواطن، والتي غالبا ما تكون ضرورة.

نعم ضرورة أساسية يجب الوفاء بها وإلا أثرت سلبا على حياة الإنسان وعرضتها للتلف، لعدم توافرها في متناول الأيدي، ولكنك مع ذلك تضطر إلى الانتظار حتى تتهيأ ظروف الإشباع.

ولأضرب مثالا، لتقريب الصورة، بأن شخصا جائعا لا يجد طعاما في المكان الذي يوجد فيه، فينتظر حتى يعود إلى بيته كي يأكل، لكن ماذا لو وجد منزله خاويا؟

لا يقتصر الأمر في الحقيقة على المأكل، بل يمتد إلى المشرب والملبس والعلاج والتعليم وكل ما يؤدي إلى الحد الأدنى من الحياة الكريمة المقبولة، فماذا إذا عزت هذه الضرورات الأساسية على التدبير، واستعصت على التوفير؟

هناك من لا يطيق صبرا، مع هذا الشح الذي يجده في الواقع المصري، حكومة وشعبا، فيجد في الجريمة ملجأً، أو الانتحار مخرجا، أو اللصوصية ملاذاً، والاحتيال موئلاً.

وهناك من يصنع من المبادئ متجرا والضمائر سوقا، أو يتحايل على هذا الوضع المأساوي تقشفا وتعففا.

وآخر يشد الحزام على البطن، أو يستدين كمعظم المصريين، من معارفه أو يقترض من البنوك بفائدة قد تضعه وراء القضبان حال تعثره وعجزه عن السداد، وما أكثر الغارمين والمتعثرين.

شح الواقع هذا ينطبق على حياة الأكثرية من المصريين، التي تعيش على خط الفقر أو دونه أو فوقه بقليل، كما أنه ينسحب على تفكير الحكومة في حل الأزمات.

ولعلى أركز هنا على الوضع الاقتصادي وتحديدا أزمة الجنيه المصري، الوحدة الأساسية للعملة، والذي تم طرحه للتداول عام 1836، ويعتبر من الاقتصاد بمثابة المخ من الجسد الذي يتحكم في تحركاته وتصرفاته الانعكاسية والتلقائية والطبيعية.

أريد أن يكون حديثي مجملا، وليس مفصلا، فالموضوع في الحقيقة متشابك جدا ويحتاج حديثا متخصصا مطولا، فتناول الأزمة بدءًا من مقدماتها التي أفضت إلى نتائجها المأساوية، يستلزم كتابا أو تحقيقا تفصيليا مستطردا.

أقول إننا وباختصار شديد نركز في نظرتنا للنقود، أو هكذا أرى، على الجانب الوظيفي منها، بأنها وحدة لقياس القيمة، سلعا وخدمات، وأنها وسيلة للتبادل، ومستودع للثروة، ووسيط للمدفوعات، وهذا ضروري ولا تثريب عليه، ولكن هل تؤدي نقودنا فعلا هذه الوظائف في الحالة المصرية الراهنة؟

الجواب كلا، والدليل ارتفاع موجة الغلاء والتضخم وتزايد معدل البطالة سنويا وتفشي الجريمة الاقتصادية، والفساد، وتراجع النمو، والهبوط الحاد في قيمة الجنيه بسبب السوق السوداء.

لكني أتمنى تعظيم النظرة إلى الجانب المعنوي الكبير للنقود، الذي يعد أيضا مقياسا للسيادة الوطنية والزعامة الإقليمية والكرامة المصرية- حكاما ومحكومين- في المجتمع الدولي والاستقلال الذاتي والقدرة على تحديد المصير، والتحكم في ضبط ساعة القرار الحاسم في وقت الأخطار.

فنحن لا يمكن أن ننفصل بعوامل ضعفنا الاقتصادي عن مصالح أجنبية وسياسات دولية تتربص أو تريد دائما أن تتحكم في الشأن المصري الداخلي ومن بينها الجهات المانحة للمعونة وسياسات البنك وصندوق النقد الدوليين والشركات متعددة الجنسيات وغيرها.

ومن البديهي أن تحسين صحة الجنيه وانتشاله من حالة الوهن الشديد، من عوامل قيام نظام اقتصادي واعد، إلى جانب تحقيق توازن معقول بين العرض والطلب في ظل أسواق تنافسية دائما ما تنكب على العملة الجيدة.

إن تعافي الجنيه المصري يحقق استقراراً للأسعار، وثباتاً لقوة العملة الشرائية، وما يترتب عليه من ارتفاع معدل المنتج المحلي حال وضع قيود على الاستيراد لصالح التصدير لتوفير النقد الأجنبي، فضلا عن تحسين توزيع الثروة والدخل وتنمية سياسة الادخار بين المواطنين.

ولا أبالغ إذا قلت إن هناك كيانات، من الجائز وصفها بـ«جماعات الظل» تعمل في الخفاء وتسعى إلى تدمير الاقتصاد المصري، كيف؟

إنها تمارس التجارة السوداء، وتعمل على تعطيش سوق العملة المحلية من النقد الأجنبي عن طريق خفض حجم المعروض من الدولار، حتى يقفز سعره في مقابل الجنيه، وما يترتب عليه من ارتفاع الأسعار، وموجة متجددة من الغلاء في ظل تضخم وبطالة ومعاناة اجتماعية وطبقية لا تجد حدا أو صدا.

ولعل السؤال المشروع هنا، هل تتبنى الحكومة سياسيات حازمة للتعامل مع المعضلة؟

أقول إن الحكومة هي الأخرى تعاني شحا في واقعها السياسي، كما ذكرت، فهناك رخاوة كاملة في قبضة الدولة للسيطرة على هذه العصابات، مع غياب دورها الرقابي بشكل شبه كامل.

هذه العصابات تضم بعضا من شركات الصرافة، التي تبجح أحد سماسرتها في مداخلة ببرنامج مشهور، قبل يومين، وشرح كيف يقومون بتهريب مليارات الدولارات إلى خارج البلاد.

إنها تعمل في الداخل والخارج، وتغري بتجارتها السوداء في هذه السوق المشبوهة، لشراء الدولارات بهامش ربحي، مهما كان كبيرا، يستطيع المصري المنتمي لوطنه وضميره أن يدوسه تحت قدميه.

فهي تهرب الدولارات أو تحتكرها وتحتجزها، بهذا الهامش الربحي المغري، والنتيجة منعها من التداول في السوق المصرية لتضع المجتمع في أزمة كبرى طاحنة لا فكاك منها.

وإني أتساءل كيف يتسنى تحقيق أهداف التنمية في ظل تراجع مصادر الاقتصاد، ونضوب موارد مصر من النقد الأجنبي؟

إن هذا الوضع يجعل من الاستمرار في معركة المكانة، إقليميا ودوليا، أمرا في حكم المستحيل، خاصة مع انحسار حلم الرخاء لدى القاعدة العريضة من الشعب.

ولعل قرار البنك المركزي بإطلاق عمليات السحب والإيداع دون حد أقصى للشركات والهيئات التي تتعامل في مجال السلع والمنتجات الأساسية، يأتي بثماره الإيجابية، ويحد من نزيف العملة الوطنية، وينعش المنتج المحلي ويصب في صالح التجارة والصناعة.

لكن الأمر يحتاج إلى حزمة ناجزة من التشريعات لضبط الأداء الاقتصادي، وتعزيز النمو، وحماية العملة الوطنية من العبث.

وبالمثل لابد من ربط الجنيه بسلة من العملات الأجنبية، وفك ارتباطه الأبدي مع الدولار وفقا لمقترحات الاقتصادي العالمي محمد العريان، وهي تتماشي وبحق مع حتمية المرحلة المعقدة، فقد فك ارتباطه السابق بالجنيه الإسترليني عام 1962، والذي سقط بدوره عن عرش العملات في مقابل القوة الأمريكية الواعدة.

لكني وبالعودة إلى شح الواقع الذي ذكرته آنفا، أجده راسخا في فكر الدوائر الحكومية في تعاملها مع الاقتصاد عصب الحياة المكشوف، فهي دائما ما تجلس في المقاعد الخلفية، ولا تنتقل من دور المتفرج إلى اللاعب المهاجم، رأس الحربة الذي يحرز أهدافا لصالح الأمة، وفي المقابل يتحمل المواطن البسيط الفقير وحده فاتورة الهزيمة الصفرية.

الحكومة تبدي أداء متثاقلا وتلجأ غالبا إلى حلول فجائية وليدة اللحظة كفكرة لامعة سطعت كالبرق في رأس صاحبها، وربما لا تتجاوزها، وربما وجدت من يضع العراقيل أمامها، أو تترقب مبعوثا للعناية الإلهية يأتي بالإلهام، مع علمنا جميعا أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.

هذه الحالة من شح الواقع هي وليدة جهاز إداري عتيد تمرس في الفساد، وبيروقراطية متجذرة أفرزت آليات روتينية عتيقة بعيدة كل البعد عن الإبداع والحل الخلاق.

إن الإدارة الحديثة، وأعنى هنا إدارة الأزمات، هي عمل جماعي يعتمد على خبرات فريق عمل متخصص بالتعاون مع المجتمع المدني غير الربحي، وما يضم من مؤسسات ومنظمات ونقابات وأحزاب، ففيه ما فيه من الأفكار والعقول المدربة، علميا وعمليا، والتي تحتك احتكاكا وطيدا بالسوق ومقتضياتها ومعادلاتها ومتطلباتها.

فتلك الفجائية الرسمية، واللحظية الحكومية إذا جاز التعبير، ليست اهتداءً للخروج من التيه الاقتصادي الكبير، إنما خطيئة مأساوية، وعشوائية ممنهجة!!

فلا بد أن تنتهج الحكومة المبادأة ونتخذ من المبادرة منهجا تطبيقيا، بأن تسارع وتكون جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة.

وخلاصة القول إننا نعيش واقعا شحيحا ضنينا يجب تغيره تغييرا جذريا، ويبقى أن تتضافر الجهود كي نمنح الجنيه المصري قبلة الحياة الجماعية كي يبقى دائما بيننا.