حصل خير.. كبر دماغك

عادل زكي الخميس 10-03-2016 21:28

هو إنسان بسيط ومكافح بمعنى الكلمة، تعرفت إليه منذ أكثر من عشرين عاما والتصقت قصته بعقلى الباطن طوال هذه السنوات، حيث ذهبت إلى بلدته فى جامعته الإقليمية كممتحن خارجى لرسالة الدكتوراه، وكانت الأخيرة هى محصلة بحث علمى معملى على مرضى القلب وقام به الطبيب على مدى 3 سنوات على الأقل. وطلبت منه أن يعطينى مهلة شهرا لأتمكن من مراجعتها. وفوجئت به فى شبه حالة انهيار لطول مدة الانتظار: «يا بك فى عرضك.. فى طولك.. أنا غلبان.. هذا سيؤثر فى تعيينى بوظيفة مدرس بالجامعة.. رئيس القسم يكرهنى لأسباب لا يعلمها إلا الله.. هو يتعمد أن يؤخر أوراقى حتى تفوتنى فرصة التعيين بوظيفة مدرس بالقسم.. اعتبرنى ابنك.. أرجوك أن تقرأها فى مدة أسبوع !!». وعندما بدأت عيناه تغرورقان بالدموع وافقت على أن تكون المهلة أسبوعين.

وعندما خلوت إلى نفسى وأنا أتصفحها للمرة الأخيرة بالقطار فى طريقى إلى بلدتهم أحسست بالضيق لما ضاع من وقتى فى قراءتها خلال الأسبوعين الماضيين، فالبحث ضعيف من جميع الجهات، وأخذت أتساءل فى داخلى: هل يقبل مثل هذا البحث فى أى مكان بالعالم؟ وهل يكون اتجاهى هو الحكم العادل بأن يرسب فى الامتحان أم أن أكون مسامحا كبيرا بالمنطق السائد لكثير من الزملاء أو «معلهش، حصل خير، كبر دماغك»؟ وشعرت بتوتر وكآبة عند إعادة جمع نقاط الحكم على الرسالة فكانت لا تزيد على 35 بالمائة فى كل مرة، أو أنه راسب!!

ودخلنا بصعوبة إلى منصة أمامية بمدرج ممتلئ عن آخره بأطباء وفتيات بزى التمريض وكثير من القرويين والعديد من ربات البيوت وأطفال من جميع الأعمار، وكان تقديرى أن عدد الحاضرين يقارب الثمانى مائة. ولاحظت العديد من اللافتات الكبيرة المعلقة على حوائط المدرج بها عنوان الامتحان واسم المحافظ ورئيس الجامعة وعميد الكلية والكثيرون غيرهم، مع كتابة اسمى بخط كبير باللون الأحمر ومن حوله دائرة متعرجة كأنى المطرب الذى جاء ليحيى الفرح.

وعندما بدأ فى عرض ملخص البحث بالشرائح الملونة لاحظت كثرة تداخل العديد من الصور التى لا علاقة لها بجدية هذا البحث، مثل مناظر طبيعية وشلالات وزهور بين كل شريحة وأخرى، وكان البحث يحتوى فى جزء منه على أضرار التدخين لأحد أمراض القلب، فأنهى ملخص البحث بصورة لطفلة رضيعة تمسك بمبسم «شيشة» وكتب أسفلها ممنوع التدخين. وضحك أحد الحاضرين معلقا بصوت مرتفع فى سكون القاعة: «هذه.. بسمة.. ابنته».

وانطلق الميكروفون بصوت جهورى له صدى: الآن «الآن الآن الآن» يشرفنا «يشرفنا يشرفنا يشرفنا».. ويشرف محافظتنا «إلخ إلخ إلخ» وجامعتنا حضور العلامة الأستاذ الكبير الدكتور.. لتقييم هذا العمل العلمى الفذ والكبير المقدم من ابننا الطبيب النابغة.. وضجت القاعة بالتصفيق الحاد لخمس دقائق على الأقل، ثم قام رئيس قسم القلب بإعطائى الميكروفون.

.. بسم الله الرحمن الرحيم.. أولا أشكركم على هذه الحفاوة الكبيرة بشخصى المتواضع.. وأنا قبل أن أبدأ المناقشة أرجو أن يوقف فنى الإذاعة صدى الصوت من الميكروفون.. من فضلك «لك لك لك».. لو سمحت «محت محت محت».. يوجد زرار «رار.. رار..» لهذا.

أولا، أنا لا أنكر حجم العمل والجهد الذى قدمه الطبيب فى هذا البحث العلمى، ولكنى أتيت إلى هنا لمناقشة الأخطاء وشرح وتقييم البحث؛ ليكون يوما تعليميا موجها منا «السادة الممتحنين الزملاء وأنا» للأطباء الصغار الحاضرين. وفى آخره سنعطى كلجنة ممتحنين تقديرنا لهذا العمل العلمى الذى امتد لثلاث سنوات.

ورفعت يدى مشيرا إلى إحدى اللافتات المعلقة على الحائط قائلا: يا دكتور، أول الأخطاء.. أنت كتبت اسمى عادل ذكى وليس «زكى» بالذال.. وتوقفت عندما ضجت القاعة بالضحك كأنى «مونولوجيست» وهذه أولى نكاتى..

- أنت يا دكتور قدمت هذا البحث فى محاضرتك بلغة إنجليزية يصعب فهمها، وأنا أعلم أنها ليست لغتنا الأم وأعلم أن نطق الإنجليزية مختلف من شعب إلى آخر؛ فهناك إنجليزية الإنجليز وحتى إنجليزية الأمريكان، وأيضا إنجليزية الهنود والمكسيكيين وإنجليزية الروس وغيرهم، وأنت كنت تنطق بإنجليزية المصريين ولكنك حولتها إلى مصرية الإنجليزى، فلا ينفع أن تحتوى جملتك على ثلاث كلمات إنجليزية وفى داخلها كلمتان بالعربية.. مثل قولك: «.. والآن.. because the study.. كانت..».

وبدأت أحاول أن أجمع شمل تركيزى.. لا يمكن أن تضع مناظر طبيعية فى عمل علمى، هناك قواعد عالمية فى كل المؤتمرات العلمية العالمية لعمل شرائح العرض من عدد الأسطر وعدد الكلمات وحجم الجداول والألوان.. وأيضا لطريقة تقديمه وزمن العرض.. فأنت ستصبح مدرسا لطلبة الطب وكل ما تقوله وتقدمه هو قدوة وتعليم وتدريس لجيل كبير قادم.

فكرة البحث الذى نناقشه اليوم تعتبر قديمة وخالية من أى ابتكار، وجميع المراجع العلمية مضى عليها أكثر من عشر سنوات.. وكان من الممكن إضافة طرق معملية جديدة مثل... ومثل... لتعطيه نوعا من التجديد والابتكار.

ومضى أكثر من نصف الساعة وأنا أعدد الأخطاء، وكانت قطرات العرق تبلل جبهته وهو يتلعثم: أصل أنا.. إمكانيات المعامل عندنا.. لا أعلم.. أنا... أنا... الأساتذة المشرفون كانوا.. نعم هذه أيضا خطأ.. آسف يا فندم..

وساد هدوء عميق على أنحاء القاعة بعد أن أنهى حديثه، وقطعه صوت مرتفع أجش لقروى مسن وممتلئ وهو يلتفت فى اتجاه آخر «.. يا حج محمد.. هو البيك زعلان من ابنك ليه؟ لماذا لا ترضيه؟.. الولد.. دكتور جيد.. والله ممتاز».

والتفت تجاهى: «.. يا سعادة البيك لقد شفانى من مرض السكر.. الحمد لله.. وعالج زوجتى من دهون الكبد وصديد البول،...».

وعندما أحس رئيس القسم بأن الزمام بدأ يفلت من يديه صاح: «يا شيخ (فتح الله)، نحن نعلم أنك عمدة بلدهم، وأرجوك ممنوع أى نوع من الكلام أو التعليق على المناقشة داخل المدرج.. إن أخى وزميلى وضيفنا اليوم قد تكلم معى قبل هذا الحفل عن إعجابه الشديد بهذا البحث، وأنه له قيمة علمية كبرى.. وأخبرنى قبل هذا التجمع بأننا هنا.. بقسم القلب، قد وفرنا كل الإمكانيات الممكنة وغير الممكنة لعمل بحث يليق بجمهورية مصر العربية التى نحن هنا فى هذه الجامعة فعلا وبدون أى إطراء.. وانطلقت القاعة بتصفيق حاد، وأكمل: «.. يا شيخ فتح الله.. كلنا نحب (الورد)، لكن يجب ألا ننسى فى أى لحظة أن الورد له شوك.. شوك..!!،.. وشكرا مرة ثانية لزميلى الأستاذ الدكتور العلامة لكل ما قدمه من قراءة علمية متأنية؛ فهو بكل الحب والإخلاص ولمعرفته بقيمة هذا العمل العظيم قد قام بتعريفنا بمكان هذا الشوك كى لا نجرح أنوفنا ونحن نستمتع بعبير الورد».

وانطلقت القاعة مرة أخرى بالتصفيق، وفى هذه الأثناء مال رئيس القسم تجاهى هامسا: «.. الشيخ فتح الله هو عمدة بلدهم وهو كفيل هذا الحفل.. والغداء وإطعام كل هؤلاء الحاضرين من منزله.. أرجو أن تفهمنى».

وعندما توقف التصفيق عاد إلى الميكروفون وهو يشير إلى: «.. وأنا.. وأنا أيها السادة.. كنت أناقش أخى وصديقى.. الآن.. وقبل ذلك أيضا.. ولعدة مرات.. تليفونيا.. وفى عيادتى الخاصة بميدان المحطة بجوار صيدلية «جورج».. (وأشار بيده إلى أحد جوانب المدرج)،.. وأكد... وأكد لى مدى تقديره واستمتاعه بكل ما احتواه هذا البحث.. وأريد.. أنا.. أيضا.. أن أؤكد لكم أنه فوجئ بدرجة التقدم التى أحرزتها أنا وبعض الزملاء فى علاج أمراض القلب وليفخر جميع الحاضرين بالمستوى الطبى العظيم الذى يماثل أوربا وأمريكا والذى وصلنا له بحمد الله فى محافظتنا النائية».

وهم واقفا وهو يتكلم فى الميكروفون: «.. والآن.. والآن.. أيها الإخوة والأخوات.. سنتوجه إلى غرفة جانبية، أنا والممتحنون لمناقشة النتيجة النهائية لهذا الامتحان.. وسنوافيكم بعد بضع دقائق لنحتفل معا بهذا العرس».

وداخل حجرة مستطيلة ضيقة جلست أنا وخمسة آخرون على أريكة مستطيلة بطول الحجرة فى صف واحد.. وكان من يرانا يجدنا كأصابع البيانو نتحرك للأمام والخلف ليرى بعضنا بعضا، واختلطت تعليقاتنا كمقطوعة موسيقية غير مترابطة.

-... بلدنا له شهرة كبيرة فى طهى «البط» وستأكل أطعم أنواع المحاشى..

- وقلت: متى سيتحرك القطار المتجه للقاهرة؟

-... الشيخ فتح الله.. العمدة.. إنه شبه ضرير.. هذا بسبب مرض السكر.. حتى سيادة المحافظ يخشاه ويعمل له ألف حساب.

-... نحن نعلم أن هذا البحث ضعيف جدا.. هذا الولد طبيب سيئ.. و... نعم نحن لا نحبه.. لكن السياسة شىء آخر.. من أول المحافظ والعميد إلى العمدة.. والله أنت لا تعلم حجم ودرجة «لى الذراع».. ونحن بلد يبرع فى زراعة «الكوسة».

-.. لقد أعجبنى تعليقك عن إنجليزية الأمريكان ومصرية الإنجليزى.. لقد أتت هذه العبارة فعلا فى موضعها.. هئ.. هئ..

- وقلت وأنا أضحك:.. يا سيدى الفاضل، أخبرنى فأنا لا أعرف.. أين مكان عيادتك الخاصة.. وأنت طبعا كنت تعمل دعاية لصيدلية «جورج».. هاء.. هاء..

وقاطعنى كأنه يريد الهروب من الموضوع «... لدى مريض وجيوبه (عمرانة) ومصاب بضيق فى الصمامات.. هل تدلنى على جراح قلب ممتاز بالقاهرة؟.. وطبعا سيمر عليك بعيادتك!».

- وأكملت ضاحكا وكأنى لم أسمع سؤاله: أنا لم أستطع كبح ضحكتى من كلمة أستاذ «الفحولة».. لقب جديد.. سنذهب إليه جميعا إن شاء الله.. ها.. ها.. هاااء..

-... نحن قوم بسطاء.. يا دكتور.. معظم الحاضرين أتوا لوليمة الغداء.

... وبمناسية العيادة، هل تعلم أن بجوار عيادتى توجد عيادة طبيب كتب على لافتته: «أستاذ.. أستااااذ.. أستاذ الباطنة والقلب والأطفال والمحاليل.. ورسم القلب الكهربائى.. وأخشى أن يكتب.. وتصليح كاوتش السيارات!!.. وهو لا يعمل بالجامعة».

-... البحث فعلا ضعيف وغير مكتمل ولكن المثل يقول: «.. إطبخى يا جارية.. كلف يا سيدى».

- وقلت: أنا لا أتكلم عن الإمكانيات المادية فقط.. أين الابتكار.. جمع المادة العلمية.. الإحصاء.. معرفة اللغة.. الفهم.. التفانى.. الإخلاص.. العلم.. هذه وظيفة الجامعة.. وللجامعة مقاييس ومعايير عالمية يجب أن نتبعها سواء فى البحث أوالباحثين، فنحن لا نخترع قوانين للطب وقوانين لعمل أو تقييم البحث.

-... إننا نعانى من حالة لامبالاة قومية..

-... لا يوجد فى بلدنا أى قانون لممارسة الطب.

- وقلت: لا.. لا.. يوجد كل أنواع القوانين التى تنظم الطب وغير الطب ولكن توجد دائما كلمة «معلهش، حصل خير، كبر دماغك»، ويا ليتنا قد رضينا بمنطق «خلطة» اللغات الدولية التى تتعامل بها جميع شعوب العالم أو رضينا بلغتنا الضعيفة أو «الإنجليزى المصرى».. ولكننا حولناها إلى شىء مشوه هزيل وأطلقنا عليه بطريقتنا «مصرية الإنجليزى» ليتراخى ويسكت الجميع.

-... يا جماعة... ما موعد قطار القاهرة؟

-... يا سادة.. إنى أكاد أموت جوعا.. «البط» ينادينا.. إن كل هذا الحشد بالخارج ينتظركم ويريد تناول طعام الغداء..

-... اعذرنى فقد نسيت فعلا.. ما تقييمك للنتيجة النهائية لهذا الامتحان؟

- ونظرت للجميع متفحصا: أنتم الأغلبية وصوتى لن يؤثر فى شىء، فالقرار للأغلبية، فلو قلت لا تصلح!!..ما هو رأيكم أنتم؟

وضج الجميع بالضحك عندما قال أحدهم بطريقة جادة: «يا جماعة إن الشيخ (فتح الله) مريض بالسكر ويريد أن يأكل.. معلهش، حصل خير، كبروا دماغكم!!».

وهممت واقفا وأنا أنظر لساعتى:.. القطار سيتحرك بعد سبع دقائق.. يجب أن أتحرك فوراً.. سأحضر مرة أخرى لأكل «البط»!!

*أستاذ القلب - جامعة القاهرة

Adel@AdelZaki.com