عبد الناصر و الجماعة من الوفاق إلى الشقاق : حادث المنشية كان حقيقياً.. ولكن لماذا قال الإخوان إنه تمثيلية؟ (الحلقة الخامسة)

كتب: اخبار الثلاثاء 12-10-2010 15:49

قبل أن تقرأ

ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.

من هنا كانت محاولتى بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كان - العقالى وقطب - كان صديقين فى مرحلتى الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.

لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.

ولعل اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.

هذه هى حقائق حادث المنشية

كلما اقترب عبدالناصر من الإخوان خطوة، ابتعد الإخوان عنه خطوتين، ومع كل محاولة كان يقوم بها عبدالناصر للوصول إلى حل لصراعه مع الإخوان، كانت تقابلها محاولات من جانبهم لتعقيد المسألة أكثر.

فقد رأينا كيف أنه بعد يومين فقط من قراره بالإفراج عنهم، استجابوا لدعوة الشيوعيين للقيام بمظاهرة ضده وضد الثورة، وفى الوقت الذى كان يتقرب فيه من عبدالقادر عودة وفرغلى وآخرون، كان هؤلاء جميعاً يعملون لحسابهم الخاص، وفى إطار طموحاتهم الشخصية، وبينما كان عبدالناصر يراهن على اقترابه من الإخوان، كان الإخوان يراهنون على صدامهم معه، فكان عبدالناصر يرى أن اقترابه من الإخوان واقتراب الإخوان منه سوف يساعد على حل صراعاته على الجبهات الأخرى داخل مجلس قيادة الثورة وخارجه، بينما كان الإخوان يرون أنه بتصادمهم مع عبدالناصر -ولو افتعالاً- سوف يعملون على حل صراعاتهم مع بعضهم البعض. فالمكسب فى نظر أى منهم كان يقاس ببعد المسافة بينه وبين عبدالناصر، بينما كان عبدالناصر يرى مكسبه بقرب المسافة بينه وبينهم.

ولعل أصدق دليل على ذلك ما حدث فى ميدان المنشية، فيما عرف باسم «حادث المنشية»، الذى جرت فيه محاولة اغتيال عبدالناصر بالرصاص على يد محمود عبداللطيف، الذى جنده هنداوى دوير، رئيس الجهاز السرى بإمبابة، لإتمام عملية الاغتيال لحسابه الخاص، ومن وراء ظهر قيادة الإخوان، حين رأى هنداوى أن كلاً منهم يعمل لحسابه الخاص لإزاحة الآخرين من طريقه.. فأراد هو أن يتقدم الجميع وعلى حسابهم بعملية يجريها لحسابه الخاص.

يروى المستشار الدمرداش العقالى حقيقة ما حدث فى ميدان المنشية.. وخلفياته التاريخية، مزيحاً الستار لأول مرة عن بعض التفصيلات التى تساعد المؤرخين فى كشف حقيقة هذا الحادث الغامض، الذى كان يمثل لغزاً محيراً لكل من الفريقين.. الإخوان وأنصارهم، وعبدالناصر وأنصاره.

ويقول العقالى: إن الهنداوى دوير- وكان شابا يعمل بالمحاماة- قد أدرك أن الإخوان لا يريدون مساعدة محمد نجيب فى صراعه مع عبدالناصر، ففكر هو فى تقديم المساعدة له شخصياً حتى إذا خلصه من عبدالناصر تم حسم الصراع لصالح نجيب، الذى لابد أن يكافئ هنداوى لقاء ما قام به من خدمة جليلة.

تمثيلية واقعية             

كان عبدالرحمن السندى -الزعيم القديم للجهاز السرى- يراقب الموقف من بعيد، وكان له بعض الأنصار فى صفوف الجهاز السرى الجديد، الذى قام الهضيبى بتشكيله عقب إزاحة السندى والتخلص منه، وعن طريق هؤلاء الأنصار علم السندى بالمؤامرة التى يدبرها هنداوى دوير لاغتيال جمال عبدالناصر.

ويقول الإخوان فى تدليلهم على أن حادث المنشية كان مجرد تمثيلية دبرها جمال عبدالناصر للتخلص منهم، إن الرصاص الذى أطلقه الفاعل محمود عبداللطيف، كان «فشنك»، فى الوقت الذى تمكنت فيه الرصاصة الأولى التى خرجت من مسدسه من إزالة جزء كبير من المنصة الاسمنتية، التى كان يقف عليها جمال عبدالناصر، بينما لم تتمكن رصاصة أخرى من الرصاصات التى أطلقت من إحداث نفس الأمر، مما يعنى أنها كانت رصاصات «فشنك»، وأن الرصاصة الأولى فقط هى التى كانت حقيقية.

ويضيف الإخوان، أن الاتفاق قد جرى بين أجهزة عبدالناصر التى دبرت التمثيلية وبين الفاعل على أن يطلق الرصاصة الأولى وهى حقيقية فى المنصة، ثم يطلق بقية الرصاصات «الفشنك» على جمال عبدالناصر.

ولكن ذلك لم يحدث بطبيعة الحال، والذى حدث أن عبدالرحمن السندى حين علم بمؤامرة هنداوى دوير لقتل عبدالناصر، أراد أن يفشل المحاولة دون أن يعلم جمال عبدالناصر، وذلك فى إطار حسابات دقيقة أجراها السندى فى ذلك الوقت، فهو شديد الحرص على حياة عبدالناصر وبقائه على رأس السلطة، إذ باغتياله سيقوى موقف الهضيبى الذى لابد أن يستدير بعد ذلك ليفتح ملف الثورة من جديد، خاصة أن العهد بقيامها لايزال حديثاً، فيصفى الجهاز السرى القديم بكل أعضائه وعلى رأسهم بطبيعة الحال عبدالرحمن السندى، ومعه كل الذين شاركوا عبدالناصر فى التخطيط للثورة.

السندى يحبط المحاولة

أما لماذا لم يخطر عبدالرحمن السندى جمال عبدالناصر بالمحاولة عند علمه بها، فذلك لأنه أراد أن تقع المحاولة فعلاً لتزيد من نقمة عبدالناصر على حسن الهضيبى فيقرر إعدامه.. وهو القرار القديم الذى ظل السندى يسعى لاستصداره، ولكن عبدالناصر كان يرفض اتخاذه، فمن ناحية أراد السندى أن تتم المحاولة ومن ناحية أخرى أراد أن تكون محاولة فاشلة للإبقاء على حياة عبدالناصر حماية له هو شخصياً.. فكيف يتحقق ذلك؟

لم يكن عبدالرحمن السندى مجرد عضو عادى فى التنظيم السرى، وهو تنظيم عسكرى مسلح، بل كان زعيمه ومؤسسه الذى يتمتع بخبرة كبيرة فى إطلاق النار وعلى دراية تامة بالحالة النفسية التى يكون عليها الشخص حين يشرع بإطلاق النار وسط الناس وفى الأماكن العامة.. وكان يعلم -كما قال لخاصته بعد الحادث- أنه يستحيل على هذا الشخص الذى يهم بإطلاق النار وسط الزحام مع حالة الخوف والرهبة، أن يحكم التصويب من الطلقة الأولى، ولكن يعود إلى التحكم فى تصويبه حينما يندمج بعد خروج الطلقة الأولى، التى يقضى بها على حالة التردد والرهبة التى كانت تنتابه عند الاستعداد للضرب وإطلاق الرصاصة الأولى.. فيحكم التصويب فى الرصاصات التالية.

خبرة طويلة

كانت تلك هى قناعات عبدالرحمن السندى التى أدركها بالخبرة الطويلة فى مجال العمل السرى والعسكرى ولهذا أرسل إلى محمود عبداللطيف، أحد أنصاره، ليبيت معه فى الفندق الذى أمضى فيه الليلة السابقة على الحادث، وهناك نجح فى حشو المسدس المستخدم برصاصة حقيقية واحدة هى الرصاصة الأولى التى قدر لها عبدالرحمن السندى أن «تطيش». ثم أكمل بقية الخزنة برصاصات من النوع «الفشنك» وهى التى قدر السندى لها أن تكون محكمة التصويب.

وجاءت تقديرات عبدالرحمن السندى للموقف سليمة مائة بالمائة فخرجت الطلقة الأولى لتزيل جانباً من المنصة، أما بقية الرصاصات فلم تحدث أى منها أى أثر بما يعنى أنها كانت رصاصات «فشنك» وذلك ما جعل الإخوان يقولون إنها تمثيلية، ولم تكن كذلك أبداً، والذى رأى عبدالناصر أو حتى سمعه فى تلك اللحظة- لحظة إطلاق الرصاص عليه- يستحيل أن يصدق وجود ذرة واحدة من الشك فيما حدث، فقد خرجت تعبيراته وكلماته عفوية وتلقائية لرجل تعرض للموت فعلاً، وليس افتعالاً أو تظاهراً.

الجريمة والعقاب

وبعد انتهاء العملية اعتقد عبدالناصر أن وراءها عبدالقادر عودة الذى كشف عن مشاعره الحقيقية تجاهه، حين قاد مظاهرة ضده بعد يومين فقط من إفراج عبدالناصر عن المعتقلين من الإخوان بناء على طلب عبدالقادر عودة نفسه، فقد دخل فى روع عبدالناصر أن «عودة» كان يقترب منه فقط بهدف الإفراج عن الإخوان، ليكسب بذلك نقطة فى صراعه مع الهضيبى حول زعامة الإخوان بينما هو فى حقيقة الأمر لا يضمر له غير الشر والحقد.

أما الآخر، الذى انصرف ذهن عبدالناصر إليه شريكا فاعلاً فى عملية اغتياله فهو الشيخ محمد فرغلى، الذى اعتقد عبدالناصر أنه وافقه على وثيقة الهدنة، لمجرد أن يصرفه فقط عما يدبره له فى الخفاء.

ويقول الشيخ الباقورى، فى مذكراته، إنه بعد أن أصدرت محكمة الثورة أحكامها بإعدام الإخوان المتهمين بقتل عبدالناصر، وجىء بالأحكام للتصديق عليها من المجلس المشترك بين مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وهو المخول بالتصديق على الأحكام، قال جمال عبدالناصر إن الأحكام التى صدرت قد أحدثت أثرها، لمجرد صدورها ولا أرى أى داع لتنفيذها إلا على محمود عبداللطيف فقط والعفو عن الجميع ما عدا الفاعل الحقيقى.. وهو محمود عبداللطيف.

ويقول الباقورى، وقد كان حاضراً الاجتماع، بصفته وزيراً للأوقاف، إن جمال سالم ما إن سمع عبدالناصر يقول ذلك، حتى تظاهر بالخروج إلى دورة المياه ثم عاد ليقف خلف جمال عبدالناصر واضعاً المسدس فى رأسه قائلا له «انت بتعمل محكمة أحكم فيها أنا بالإعدام عليهم ثم تصدر أنت عفواً عنهم، فتكون أنت ملاك الرحمة فى نظرهم وأكون أنا الشيطان الذى يستحق القتل؟!».

ومضى جمال سالم فى تهديده لجمال عبدالناصر: «إما أنك توقع على تنفيذ الحكم فوراً والآن، وإما أن أقتلك فوراً والآن!!»

تنفيذ الإعدام

كان جمال سالم قد اتفق مع أحمد أنور، قائد السجن الحربى، الذى أودع فيه المتهمون على أنه بمجرد سماع إذاعة خبر التصديق على الأحكام من الإذاعة ينفذ فى المتهمين حكم الإعدام فوراً، كما اتفق مع أخيه صلاح سالم على إذاعة الخبر من الإذاعة فوراً.. وبقى الاجتماع منعقداً تحت تهديد جمال سالم حتى أذيع الخبر من الإذاعة وتم تنفيذ حكم الإعدام فى المتهمين، رغم أنف جمال عبدالناصر وضد رغبته.

وقد تبين من التحقيقات التى أجرتها النيابة أن الهضيبى لم يكن له أى دخل فى عملية الاغتيال، ولكن رأت المحكمة أن عدم علمه لا يخلى مسؤوليته عما حدث، فهو المسؤول الأول عن تنظيم حاول بعض أفراده اغتيال رئيس الجمهورية، فتم تخفيف حكم الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة نظراً لكبر السن، كما قالت المحكمة فى حيثياتها، وكان الهضيبى فى ذلك الوقت قد وصل السبعين عاماً.

أما قول الإخوان بأن المسدس- أداة الجريمة- قد ضاع وأن وجوده ضرورى لتحقيق الجريمة، فهو حجة واهية، نظراً لأن الرصاصات قد أطلقت فعلاً وسمعها الجميع، ولابد أنها أطلقت من مسدس. فالمهم هنا هو إطلاق الرصاص وليس المسدس الذى أطلقت به، لأن العملية ليست مجرد شروع فى قتل بمسدس ضبط أو لم يضبط. المهم أن عبدالناصر لم يعتقل أحداً من الجهاز السرى الخاص القديم الذى كان قد تشكل فى عهد حسن البنا، والذى كان برئاسة عبدالرحمن السندى، لأن عبدالناصر كان يعلم أن قاعدة ذلك الجهاز سليمة وذلك بحكم معرفته القديمة التى استقاها من انتمائه له فترة طويلة واطلاعه على الكثير من أموره السرية والغامضة، وكانت كل الاعتقالات التى تمت بعد حادث المنشية من أعضاء الجهاز السرى الجديد برئاسة يوسف طلعت الذى كان يدين بالولاء للمستشار حسن الهضيبى شخصياً.

أعود إلى تأكيد أن عبدالناصر كان إخوانياً خالصاً مخلصاً، ولكن كونه إخوانياً ملتزماً لا ينفى أنه كان كإنسان يحرص على أن يوجد مركز قوة آمناً.

والمهم هنا أنه فى أعقاب حادث المنشية، وكنتيجة مباشرة له، ظفر عبدالناصر بالساحة المصرية منفرداً، ثم تلاحقت الأحداث تدعمه وتعزز مركزه زعيماً وطنياً وعربياً وإسلامياً من طراز خاص، وجاء تأميمه لقناة السويس وأحداث العدوان الثلاثى وخروجه منتصراً سياسياً، لتساعد على ترسيخ مكانة عبدالناصر محلياً وعربياً وإسلامياً، حتى جاءت الوحدة مع سوريا.

ولعل ما حدث فى أول زيارة له لسوريا يكفى لأى مؤرخ دقيق أن يقول: هاهو الإخوانى القديم، بمجرد أن غادر الساحة المصرية التى عانى فيها من التناقض الإخوانى وجاء إلى ساحة جديدة برزت فيها إخوانيته فى التعامل مع ظروف الحركة فى سوريا بالدليل، وبمجرد أن وصل عبدالناصر إلى سوريا، كان الموقف أمامه يتلخص فى أن الذين طالبوا بالوحدة وعملوا لها هم ضباط الجيش السورى وعلى رأسهم رئيس أركان الجيش عفيف البزرى وأكرم الحورانى وصلاح البيطار، وهم يمثلون مختلف القوى السياسية على الساحة السورية، ما عدا قوة واحدة لم تأت إلى القاهرة، ولم تطالب بالوحدة مع عبدالناصر، لأنها كانت تشعر أنها قوة نقيضة، وهى قوة الإخوان المسلمين، وعلى رأسها مصطفى السباعى، المرشد العام فى سوريا.

وكان مصطفى السباعى قد أقام سوريا وأقعدها ضد عبدالناصر فى أعقاب حركة الإعدامات التى قام بها فى صفوف الإخوان المسلمين بمصر بعد حادث المنشية الشهير، وكان السباعى وقتها عضواً بمجلس النواب السورى، واستطاع أن يهيج المجلس كله ضد عبدالناصر فى ذلك الوقت، فكان طبيعياً ألا يطالب بالوحدة مع مصر تحت زعامة عبدالناصر.

كما كان طبيعاً أيضاً أنه حينما يذهب عبدالناصر إلى سوريا حاكماً أن يكون الخائف الوحيد منه هو مصطفى السباعى، ومعه بقية جماعة الإخوان السوريين، وهذا ما جرى، بمجرد وصول عبدالناصر إلى دمشق، اجتمع الإخوان السوريون وقرروا الهرب وإخلاء الساحة السورية لعبدالناصر كما خلت له الساحة المصرية، حتى لا يعرضوا أنفسهم للتنكيل على يديه.. فقد كان هذا هو المصير الوحيد الذى تخيلوه لأنفسهم فى العهد القريب.

المفاجأة.. ولكن

وبينما السباعى فى بيته يعد العدة للهرب إلى بيروت، فوجئ فى اليوم التالى لوصول عبدالناصر إلى دمشق بوصول عبدالحميد السراج، رئيس المكتب الثانى بالمخابرات السورية، على رأس قوة عسكرية من عدة سيارات تحاصر بيته، فأيقن السباعى أن أجله قد حان وبأسرع مما كان يتوقع.

صعد السراج إلى بيت السباعى وحينما قابله فوجئ به قائلاً: السيد السباعى.. رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبدالناصر يستأذنك فى الزيارة ببيتك العامر!

جلس عبدالناصر فى مواجهة الشيخ مصطفى السباعى ليقول له: يا شيخ مصطفى قبل أن أسمع رأيك فى مسألة الوحدة وموقفك منها، أريدك أن تسمع منى قصتى مع الإخوان منذ عام 1942، وحتى الآن، وأنا أقبل حكمك بينى وبينهم، فإذا رأيتنى مخطئاً فمعنى ذلك أننا مختلفون وأعطيك الفرصة لتذهب إلى أى مكان آمن ولا شأن لى بك.. أما إذا أعطيتنى الحق فأنا أطالبك بالوقوف معى دون تردد.

أخذ عبدالناصر يقص على السباعى وقائع العلاقة بينه وبين الإخوان ثم ظروف وملابسات الخلاف مع حسن الهضيبى، وصولاً إلى حادث المنشية وما جرى بعده، وحينما انتهى من قصته قال له السباعى، إن الوحدة العربية عندى هى عودة الروح للإسلام، فهى وحدها- إذا خلصت النوايا- عين الإسلام، وحتى أعلن هذا على الملأ لأؤكد لك أننى ملتزم بما أعلن، ألتمس منك وقد تفضلت بزيارتى أن أخرج معك الآن لنزور قبر صلاح الدين، لتقول على القبر نقيض ما قاله «غورو» القائد الفرنسى حين دخل دمشق مع قواته «ها قد عدنا يا صلاح الدين»!

ذهب عبدالناصر فعلاً وفى صحبته مصطفى السباعى، المرشد العام للإخوان المسلمين فى سوريا، إلى قبر صلاح الدين، وهناك ألقى خطابه الشهير الذى قال فيه: «لقد قامت فى الشرق دولة لا شرقية ولا غربية تحمى ولا تهدد تصون ولا تبدد تشد أزر الصديق.. وترد كيد العدو»! وقد استغضب عبدالناصر بقوله هذا كلاً من البعثيين والشيوعيين.. بينما شعر كل إخوانى مخلص أنه هو الذى كان يتحدث.

ربما يقول البعض إن عبدالناصر قد فعل ذلك ليستقطب الإخوان المسلمين، ولكن الدليل على أنه كان جاداً ويعنى ما يقول أن الشيوعيين والبعثيين اعتبروا كلمة عبدالناصر رسالة موجهة لهم، فقرروا مغادرة سوريا، مخلين الساحة لعبدالناصر وجماعة الإخوان المسلمين وحدهم!

وجاء السباعى إلى مصر ليتصل برموز الإخوان فيها، مؤكداً لهم أنه إذا ضاع عبدالناصر فلن تعوضه الحركة الإسلامية، وأن خلافهم مع عبدالناصر لا مبرر له خاصة أن كل ما يقوم به يصب فى إطار الشريعة الإسلامية ولا يخرج عنها، وأنه من غير المقبول ولا المعقول أيضاً، أن يكون الإخوان المسلمون مع الصهاينة والغرب والشيوعيين فى صف واحد ضد عبدالناصر، وضد الوحدة.. بحجة أن القومية العربية نقيض للإسلام، أو أن الوحدة العربية نقيض للوحدة الإسلامية.

وأخذ السباعى يشرح للإخوان المصريين حقيقة رأيه المؤيد والمناصر لجمال عبدالناصر ويطالبهم باتخاذ نفس الموقف الذى يمليه عليه ضميره الإسلامى وحرصه على النهوض والتقدم.

من ناحيته، ظل عبدالناصر حريصاً على تقريب مصطفى السباعى منه، بعد أن وجد فيه العوض عن الإخوان المصريين، وحينما فكر عبدالناصر فى إجراء حركة التأميمات بسوريا، ذهب إلى السباعى ليستطلع رأيه، ويستفتيه، فأفتاه السباعى، بأن الاشتراكية هى عين الإسلام، وأنه لا تناقض بينهما، فالإسلام قام على العدل الاجتماعى الذى هو القاعدة فى كل من الاشتراكية والإسلام، وقد وضع السباعى كتابه الشهير «الاشتراكية فى الإسلام» ليؤكد به رأيه المؤيد لعبدالناصر فى قرارات التأميم، التى جرت فى كل من مصر وسوريا.

فى الوقت الذى كان فيه الإخوان فى مصر يهاجمون القرارات الاشتراكية ويصفون اشتراكية عبدالناصر بالكفر والإلحاد والخروج على الإسلام، كما هاجموا فى السابق قوانين الإصلاح الزراعى، حين اعتبرها الهضيبى عدواناً على أموال الناس وأكلها بالباطل، وكانوا بهذه المعارضة يؤكدون انحيازهم الكامل لطبقة الإقطاعيين، «كان الإخوان المسلمون فى سوريا مع جمال عبدالناصر فى كل ما اتخذه من خطوات اشتراكية إسلامية».

اعترافات : المستشارالدمرداش العقالى

سجَّلها بقلمه : سليمان الحكيم