تدريب الفصوص لردع اللصوص

محمد المخزنجي الأربعاء 09-03-2016 23:05

هاهو اللص الخارج لتوه من السجن يمضى هائما فى دروب المدينة، يداه فى جيوبه وخطواته نشوى ووجهه يتأمل حياة الحرية من حوله، الناس الراحين والغادين بلا أسوار ولا قضبان، البيوت الوادعة والمحال النشطة، والزُرقة الصافية فى سماء الشوارع وفوق الأبنية. مؤكد أنه يحس بأن حياة الحرية جميلة حقا، وهو يستمتع بمجرد التمشى فى حناياها والتنفس من هوائها، تقوده خطواته إلى طريق فرعى ضيق، يرى سيدة تمشى منفردة، ويلمح فى يدها حقيبة غالية الثمن، عندئذ لايعود يفكر فى شيء إلا اختطاف هذه الحقيبة، رغبته تطغى على أى تحسُّب مستقبلى لعواقب تحقيق هذه الرغبة، هو يعرف أن تحقيق رغبته يشكل جريمة سرقة، ويعرف أن عقوبة هذه السرقة عودته إلى السجن الذى خبر قسوته وذاق مراراته، لكنه لاشعوريا يقفز فوق ذلك كله، ويركض نحو السيدة، لتحقيق رغبة اختطاف الحقيبة التى استولت على كيانه كله.

هذا المشهد، أعدتُ صياغته التقاطا من كتاب مهم يرصد أحدث الأبحاث المتطورة فى مجال دراسة المخ والأعصاب وعلاقتها بالسلوك والظواهر النفسية، لكن صاحب الكتاب، ديفيد إيجلمان، لم يُرِد بهذا المثال أن يشير إلى ذلك اللص، بل إلى «اللص» الذى فى داخل اللص، والذى لايقتصر وجوده على دخائل اللصوص وحدهم، بل هو موجود داخل كلٍ منا بطرق شتَّى وفى مواقف مختلفة، يمثِّل ضَعف التحكم بالاندفاع لتحقيق الرغبات، ويظهر بدرجات مُتباينة عند عموم الناس، وبصورة عدوانية لدى مرتكبى الجرائم، وبأشكال بائسة فى المرضى النفسيين، وقد كان الذريعة التى بنى عليها مُخرِّمو الأدمغة عملياتهم الوحشية لفصل مقدمة الفصوص الجبهية فى المخ، بدعوى السيطرة على هذا الاندفاع.

ديفيد إيجلمان أشهر العلماء الذين كتبوا عن اكتشافات عمل المخ الحديثة، كتابه «المتخفى ـ الحياة السرية للدماغ» ثورة فى مفاهيم عمل المخ نسفت المفاهيم القديمة وصك فيه تعريفات مثل: «ديمقراطية الذهن» و«برلمان العقل» لتقريب اكتشاف تنافس دوائر العمل المتشابكة فى المخ البشرى

كتاب ديفيد إيجلمان «المتخفى ـ الحيوات السرية للدماغ»، وبناء على المكتشفات العلمية الحديثة للُأسُس الأحيائية فى السلوك، قدَّم رؤية جديدة لآليات عمل المخ، أسماها « ديموقراطية الأعصاب»، بنى عليها تبشيره بالاقتراح الجديد الوليد، لعلاج الاندفاع لتحقيق الرغبات دون تبصُّر بالعواقب، بلا جراحة نفسية إجرامية، وبلا لجوء للأدوية النفسية ذات التأثيرات الجانبية التى لايمكن إنكارها، وهذا العلاج يُسمَّى «تدريب الفصوص الجبهية»، وقد أفرد له إيجلمان فصلا فى كتابه الكبير الخطير تحت العنوان نفسه. وفى مطلع هذا الفصل شدَّد إيجلمان على ضرورة الاعتراف بأن الدماغ يعمل بآلية تفاعل فرقاء من المتنافسين، وأن النتيجة التى يعكسها السلوك تمثل ميل النتيجة لصالح فريق بعينه، وهذه النظرية تطيح بالنظرة القديمة فى العلوم العصبية، التى كانت تنظر إلى المخ كمناطق نفوذ ثابتة تشكل إثارة كل منطقة منها سلوكا محددا، ولعل أفدح تطبيق لها يتمثل فيما سُمِّى علم تفرس الجماجم «فرينولوجى» الذى راج فى فورة النازية، واتُخذ سبيلا للتحقُّق من أصالة الانتماء إلى الجنس الألمانى، الآرى، تبعا لشكل ونتوءات الجماجم التى تشير إلى تكوينات المخ تحتها كما كان يُعتقد.

هذا الاكتشاف العلمى الحديث لحقيقة «ديمقراطية الأعصاب»، تأسَّس على أبحاث أعمق وأدق وأوثق، استُخدمت فيها تقنية التصوير الوظيفى بالرنين المغناطيسى f MRI للمخ وهو يعمل، وربط ذلك التصوير الفورى ببرامج حاسوبية متطورة لإيضاح دلالات الصور، عصبيا ونفسيا، فكشفت أن فصوص المخ الجبهية ــ لدى كل الناس ــ ليست حكرا على مُولِدات نوع منفرد من السلوك، بل هى ساحة تنافس بين نوعين من الدوائر العصبية، دوائر قصيرة المدى تطلق دوافع الاستعجال فى تحقيق الرغبات، وأخرى بعيدة المدى تتحسب للعواقب المستقبلية لتحقيق أى رغبة، ومن ثم يعمل كل من هذين النوعين لترشيد الآخر، ليفوز أحدهما بسلطة اتخاذ القرار المناسب.

هذا الفهم العلمى الجديد لعمل المخ كساحة تنافس ديمقراطى، كان الأساس لابتداع طريقة جديدة وليدة تستهدف ترشيد اندفاعات تحقيق الرغبات بتسرع، بتدريب الفصوص الجبهية فى المخ على تثبيط الدوائر العصبية قصيرة المدى وتحفيز الدوائر العصبية بعيدة المدى. وقد أشار إيجلمان إلى اثنين من الباحثين البارزين فى هذا المجال، هما ستيفن لاكونت، وبيرل تشيو، وعندما عمقت البحث عنهما وعن أبحاثهما خارج صفحات الكتاب، أدهشنى كيف أنهما شابان لايزالان ومع ذلك يُسمح لهما بأن يقودا فرقا بحثية متقدمة ومدعومة حكوميا وأهليا بعشرات ملايين الدولارات. كما لفت نظرى من جديد هذا الزحف الصينى فى غزو مجالات البحث العلمى المتقدم فى الولايات المتحدة وفى الغرب عموما، فالعالمة «بيرل تشيو» صينية الشكل والأصل شابة لم يعوِّق العواجيز ولا التعصب العرقى أو الطائفى انطلاقها فى أبحاث على هذه الدرجة من الأهمية، فهى أستاذ علم النفس البيولوجى بمعهد كاريليون للأبحاث بفرجينيا، كما أنها باحثة مُشاركة فى جامعة هارفارد.

يتشارك الباحثان اللذان أشار إليهما كتاب «المتخفى» فى استخدام آلية «التغذية الراجعة» فى تصوير المخ أثناء تدريب الفصوص الجبهية على لَجْم الدوائر العصبية قصيرة المدى، المسؤولة عن الاندفاع فى تحقيق الرغبات دون تحسُبَّات مستقبلية. ولإيضاح ذلك تأسيسا على التجارب التى تم إجراؤها، لنتصور شخصا يؤذيه تناول أطعمة كثيفة التحلية بالسُكَّر، يخضع للتجربة التى تُعرض عليه فيها صورة كعكة شوكولاته مغرية فيما يتم تصوير المخ شعاعيا مع التركيز على مناطق المخ التى تنشط مع الرغبة، وعرض صعود وهبوط هذا النشاط على شاشة كمبيوتر فى شكل خط رأسى يمثل مقياس الرغبة، فإذا نشطت دوائر الرغبة قصيرة المدى يصعد الخط، وإذا كُبِحت يهبط. ومن مراقبة الشخص موضوع التجربة لصعود وهبوط خط مقاومة الرغبة، يدرك مايفعله فى ذهنه ليهبط بهذا الخط، مما يعنى نجاحه ذهنيا فى مقاومة الرغبة فى التهام الكعكة، ونجاحه فى قيادة الفصوص الجبهية لتثبيط دوائر المخ المسؤولة عن السلوك الاندفاعى. ويشبِّه إيجلمان هذه التجربة بحوار ديمقراطى بين فرقاء سياسيين فى حزبين متنافسين يتسابقان للحصول على سلطة اتخاذ القرار فى قضية ما، بعد فتح مجال النقاش بينهما بالتساوى للحصول على النتيجة الأفضل، وهو ما أوجزه إيجلمان فى مقولة: «لنتأمل قبل أن نفعل».

التأمل إذن هوالغاية من تدريب الفصوص الجبهية، وهذا تيسير كبير لمن يريد التيسير فى موضوع خطير الشأن كالتسرع أو التمهل فى اتخاذ القرارات، على مستوى الفرد، ومستوى المجتمع، الأمة، الدولة. وبالطبع لايمكن تصور أن الأفراد العاديين أو متخذى القرارات ينبغى أن يحملوا أجهزة تبيين «التغذية الراجعة» على غرار التجربة، لتدريب فصوصهم الجبهية على ردع لصوص التسرع فى هذه الفصوص لإنفاذ الرغبات غير المتحسبة للعواقب، بل يكفى إعمال التمهُل والتأمُّل، للنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، فوائدها وعواقبها، بدائلها الأكثر جدوى أو الأكثر ملاءمة. هذا على مستوى الفرد وفى نطاقه الذاتى، النفسى، الداخلى. أما على المستوى العام، والجمعى، فهذه النتيجة تُذكِّرنا بمقولة «لاخاب من استشار»، والتى تُقدِّم نموذجا للتأمل الجمعى الذى تتنافس فيه أفكار متعددة، مختلفة، للخروج بالقرار الأصلح. وليس الأمر بجديد، فالجديد هو إثبات حقيقته علميا فى متن خلقتنا، فطرتنا، التى زوَّدت فصوص أدمغتنا بما يكبح اندفاعات ذلك «اللص» المتسرع فى إنفاذ الرغبات دون تقدير للعواقب، والذى ما إن يُلجمه التمهُّل والتأمُّل حتى لايغدو لصا، فتنعدم جرائمه وتتبدَّى مكارمه!

جنَّبنا الله أخطاء وخطايا هذا اللص، فينا، وفى غيرنا.

بآخر علوم العقل: ماكان مُبرَّراً لم يعد مقبولاً

التصوير بالرنين المغناطيسى وتحويل وميض تفاعل المخ المفكر فى الصور إلى مؤشر رقمى يتم التحكم فيه ذهنيا

بعد الاستعراض التشريحى والوظيفى لمناطق الدماغ طبقا للمكتشفات الأدق والأحدث، خلص عالم الأعصاب ديفيد إيجلمان فى كتابه «المتخفى» إلى تقريب عمل المخ بما أسماه «النظام الثنائى المُهيمن» والمكون من نظامين متنافسين تصطف خلفهما بقية الأنظمة تبعا لاتساقها مع أيِّ منهما.

أولهما: «النظام الانفعالى»، وهو عاطفى، سريع وآلى وتحت مستوى الوعى الشعورى، ويعمل بأشكال حدسية اندفاعية، يتعجل النتائج دون تفكير مستقبلى، ولا يتحسَّب للعواقب بعيدة المدى، ويتعجل الفوز وكأن كل الأمور مباريات، أو معارك!

ستيفن لاكونت وبيرل تشيو ـ عالمان شابان يقودان أبحاث تدريب فصوص المخ الجبهية لتحجيم السلوك الاندفاعى، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسى وتحويل وميض تفاعل المخ المفكر فى الصور إلى مؤشر رقمى يتم التحكم فيه ذهنيا

وثانيهما: «النظام العقلانى»، وهو تأمُّلى متمهِّل، إدراكى وتحليلى، فى مستوى الوعى الشعورى، ومحكوم بقواعد معتبرة، ويلتزم بالنظر بعيدا وفى كل الاتجاهات، يتحسب للعواقب بقدر ما يستشرف الفوائد، فتكون رؤيته مستقبلية، وطويلة المدى.

كل نظام من هذين المتنافسين، يكون جديرا بالفوز فى ظروف محددة تتناسب مع كل مهمة، إن لم يحدث اضطراب يُربك هذه الجدارة. بل إن فوز أحد النظامين باتخاذ القرار غير المناسب فى مرحلة لاتتناسب معه، يكون دليلا على أن هناك شيئا ما غلط، واستمراره يهدد بعواقب وخيمة. وهذه الرؤية لعمل المخ، وإن كانت علمية تخصصية، إلا أنها قابلة للإسقاط على أمور تبدو بعيدة عنها تماما، وما هى كذلك، إذا اعتمدنا مبدأ التناظر، أو استقراء نتيجة تفاعل ما بدلالة تفاعل يشبهه، ولو جزئيا، وهذا يُمثِّل إحدى أهم أدوات التفكير البشرى الإبداعى الأساسية، التى كرس لها عالم الفسيولوجيا ودراسة الإبداع روبرت بيرنشتين وزوجته ميتشيل عشر سنوات من عمرهما البحثى، بلوراها فى كتابهما المهم: «شرارات العبقرية ـ أدوات التفكير الثلاث عشرة لأكثر البشر إبداعا فى العالم»، وخصصا أحد فصوله لهذا الاستقراء بالتناظر ANALOGIZING، ليتنا نتعلمه، ونعلمه فى مدارسنا، ونستلهمه فى حياتنا الخاصة والعامة، فهو إحدى أدوات التفكير التى أدت إلى اكتشافات كُبرى فى مجال العلوم والتقنية، كما فى إبداع نفائس عظمى فى الآداب والفنون والمعرفة.

ستيفن لاكونت وبيرل تشيو ـ عالمان شابان يقودان أبحاث تدريب فصوص المخ الجبهية لتحجيم السلوك الاندفاعى، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسى وتحويل وميض تفاعل المخ المفكر فى الصور إلى مؤشر رقمى يتم التحكم فيه ذهنيا

المهم، وفى محاولة تقييم ملاءمة أو عدم ملاءمة ما نحن سائرون فيه منذ 30 يونيو، نكتشف أن نظام عمل التفكير الانفعالى هو الذى كان سائدا، ولا يزال، وإن بدرجة أقل، لكنها لم تسمح تماماً بنظام عمل التفكير العقلانى أن يحل محله ويستقر، برغم أن الظروف تغيرت تغيُّرا يكاد يكون تاما، ويستصرخ ضرورة أن نغير ما استمرأناه، وإلا كان الاستمرار على ما سلف من هيمنة التفكير الانفعالى، دليلا على وجود خلل فى منظومة التفكير إن لم يتم إصلاحه، وبأسرع ما يمكن، نكون عرضة لمخاطر يصعب تداركها، ويصعب إيقاف تسارع تدهورها.

فى الفترة الأولى بعد إزاحة حكم جماعة الإخوان، الذى لم يكن هناك مفر من إزاحته ــ بعدما اقترف فى حق الأغلبية ما يهينها ويخيفها من خلال ممارسات الإقصاء والأخونة والتهديد بالعنف ــ فُرضت على الأمة حالة حرب حقيقية، قوامها التدمير فى الداخل، والتحريض من الخارج، ولم تكن مصر تبيت إلا وتصحو على تفجير هنا أو اغتيال هناك، وإطلاق قذائف وإشعال حرائق، بل تدنى هذا العنف والتدمير إلى حد سكب الزيت على طرق السيارات دون تمييز، وإسقاط أبراج الكهرباء وتفخيخ الجسور، وزرع العبوات الناسفة فى أماكن عامة. كانت حالة حرب حقيقية، تجهر بأن مشعليها يهددون الدولة والأغلبية المطلقة من رافضيهم: نحكمها ونحكمكم أو ندمرها وندمركم.

تحت وطأة هذه الحالة التى تكون فيها الأمة فى وضع استنفار دفاعى مشحون بالخوف والقلق، كان طبيعيا أن يتشبث الناس بمن يحميهم، فيكون منقذهم، وتتعلق بوجوده ملامح «متلازمة المنقذ» المشحونة أعراضها بالتشبُّب العاطفى، والتغنى بكل مافيه وما يتوسمون أن يكون فيه، والتجاوز عما يستوقفهم منه، والالتفاف حول ما ينجزه أو يعد بإنجازه. وقد كانت ولا تزال هناك مآثر وتضحيات كُبرى، قدمها ضباط وجنود ضحوا بأرواحهم وفقدوا أجزاء من أجسامهم فى مواجهة هذه الحرب المتسمة بالخسة، والغل، والعمى الروحى والتدين الزائف. وما إن بدأت بوادر انتصار الحكم الجديد فى هذه الحرب، حتى شرعت عجلة التنمية فى الدوران، فيما كان نظام العقل الانفعالى مهيمنا لايزال، فهل كان ذلك مناسبا؟

الحرب بطبيعتها حتى فى الوضع الدفاعى هى حالة انفعالية، تقتضى الشحن العاطفى والاندفاع وتأجيل المراجعة، لكن عمليات التنمية الاقتصادية والإنسانية ليست كذلك، فالانتصار فيها ليس صبر ساعة، والفوز بثمارها ليس حصاد مواجهة عاصفة، خاصة لو كان ضروريا أن تكون هذه التنمية ـ بوجهيها الاقتصادى والإنسانى ــ مستدامة، فى بلد فقير وبه مساحات واسعة من التخلف، ونحن بلد فقير وبه مساحات واسعة من التخلف، بحساب الكتلة السكانية المُهمَلة الضخمة، وهشاشة البيئة، ومحدودية الموارد، لكن هذا كله جرى تناسيه إبان الفترة المبكرة الصعبة بعد 30 يونيو، لسبب استثنائى يتمثَّل فى تدفق دعم اقتصادى سخى قدمه الأشقاء من دول الخليج العربى لمصر. وفى ظل هذا الشرط الاستثنائى كان مقبولا بدرجة ما، من أهل المعاناة والشدة، وهم يَثبُتون فى ساحات الحرب المفروضة عليهم من طيف داخلى أعمى البصيرة، وخارجٍ متربصٍ مشحوذ باللؤم، أن يحلموا بمصر تنهض مُسرِعةً بمشاريع عملاقة، ومُسرِعةً تُحلِّق فى الأعالى. وكان ما كان من إنجاز لايمكن إنكاره فى جوانب من ذلك الحلم، وإخفاق يصعب إنكاره فى جوانب أخرى، والمحصلة يمكن تبريرها، لكن استمرار ما كان من نهجٍ متعجِّلٍ حالِم، لم يعد ممكنا تبريره.

الآن، تراجع الشرط الاقتصادى الاستثنائى الذى كان داعما، بعد تدنى أسعار النفط وانفتاح جبهات تلتهم الوفرة الخليجية وتغيُرات فى المواقف يصعب إنكارها. فهل تظل السيادة لنظام التفكير الانفعالى فى موضوع التنمية الاقتصادية وغيرها من ضرورات النهوض والتماسك المجتمعى؟ بالطبع لا، فالحرب التى أشعل نيرانها قصر نظر جماعة الإخوان وحلفائها انتهت لغير صالحهم، وما هى إلا ذيول دخان ستنجلى. لم يعد الإخوان خطرا لعشرات السنين القادمة، فهم بقصر نظر تنظيمهم وغباوة رُعاتهم، شنوا حربهم على سائر المصريين لا الدولة فقط. وهيهات أن تكون لهم مصداقية بين الناس. ومن ثم تكون حالة الحرب شبه منتهية، وينتهى معها تبرير التفكير الانفعالى المندفع، أحادى الجانب، والذى أفرز محاولة بناء هرم التنمية مقلوبا، فابتدأ بالقمة الطموحة غير المنطقية، لا بالقاعدة الراسخة المُهيأة لحمل ما يعلوها بتدرُّج يُناسب أحوالنا، كما أفرز التحشيد التعبوى بحناجر صاخبة تفتقر إلى الرقى المهنى والإنسانى، شيوعا لهمجية مذمومة واستباحة عامة لم يعد ممكنا احتمالهما، أضرَّا «البلد» و«الدولة» و«النظام» و«الوطن»، وكل ما ومن زعمت هذه الحناجر الرديئة أنها تحتكر الدفاع عنه، وتخوِّن كل من عداها!

لم يعد يصح إلا الصحيح لبلوغ الأصح والأكثر نفعا واستدامة، وهذا يتطلب قطعا إعمال دوائر التفكير العقلانى، الذى يعيد تشكيل سلم الأولويات بموضوعية وحِكمة، مع الاعتماد على الذات، والترشيد الصارم والمنظم، وعدم إغراق المستقبل بديون الحاضر. وهذا لابد له، حتى تكون شِدَّته على الناس مُحتملة، أن يترافق مع إعلاء دولة القانون العادل، وإصلاح عوار التشريع المزمن، والاحترام الأقصى لحقوق المواطنة وكرامة الإنسان، حتى مع المختلفين والخصوم، بل أولاً مع المختلفين والخصوم، ماداموا لم يمارسوا عنفا ولا حضوا عليه. هكذا يقول لنا ــ ولو بالتناظُر ــ عِلم دراسة المخ ومستقبليات العقل. والتعقُّل.

صلابة مثقف وشجاعة ملك

الملك عبد الله بن عبد العزيز

كتاب «المتخفى» الذى تتكئ على معطياته وقبساته هذه الرحبة، نُشر فى الولايات المتحدة عام 2011، ولم أستطع الحصول عليه حال صدوره، وإن كنت قرأت عروضا له ومناقشات غزيرة حوله، فقد لفت الأنظار بمحتواه وظل يتصدر قائمة الأعلى توزيعا لفترة طويلة، وتُرجِم إلى عشرين لغة فى سنته الأولى، ثم تصدى لترجمته الدكتور حمزة بن قبلان المزينى وتم نشر الترجمة عام 2014، وطرت فرحا بالوقوع على نسخة منها.

الدكتور حمزة المزينى ـ ترجم كتاب «المتخفى». تعرض لحكم بالحبس والجلد لمناداته بتطبيق علم الفلك فى تحديد ظهور الأهلة فتدخل جلالة الملك عبدالله وألغى الحكم بعفو ملكى كامل.

لم أكن أعرف شيئا عن المترجم، ولما رأيت الترجمة بارعة برغم صعوبة هذا الكتاب شبه المتخصص، الذى تطلَّب منى برغم دراستى لطب الأعصاب والطب النفسى أن أراجع معلوماتى وأجددها، بحثت عن سيرة المترجم، فاكتشفت أن الدكتور المزينى أحد فرسان التنوير فى المملكة العربية السعودية، وقد أوقع بعض من نعرف مثلهم هنا بالدكتور المزينى ليُحاكم أمام محكمة شرعية هناك، وعندما مثل أمام الشيخ سليمان الفنتوخ، قاضى هذه المحكمة، رفض الدكتور المزينى أن يجيب على أسئلته لعدم اختصاص المحكمة، حيث يوجد قرار ملكى تنبه إلى مثل هذه الفخاخ للإيقاع بأصحاب الرأى الذين ليسوا بكافرين ولا مجرمين، فأحال كل ما يتعلق بالنشر إلى لجان تحقيق تنبثق من إدارة النشر والإعلام، ومع ذلك حكم القاضى الفنتوخ على الدكتور المزينى بالحبس والجلد برغم أن تهمته لم تكن إلا المناداة بتوظيف علم الفلك فى استطلاع الأهلة، وتدخل الملك عبد الله رحمه الله حين كان وليا للعهد، فمنع تنفيذ هذا الحكم الجائر والمهين على مثقف سعودى كبير بمنحه عفوا ساميا كاملا. كان ذلك نموذجا مبهرا، وحاسما، لاستنارة ملكٍ حكيم وشجاع وعادل، فهل نتأسّى باستنارة وشجاعة هذا الراحل الكريم، لنضع حدا لقوانين مصرية سيئة التشريع، يتلاعب بها البعض للتنكيل بخصومهم تحت لافتات مُراوِغة، تُكرِّس لفوضى التقاضى، وتؤسس لحِسبة جديدة كيدية، يمارسها بسُعار، كل من هب ودب؟