تتمايز الخطابات العربية المعاصرة فيما بينها. كل منها يدل على موقف ثقافى، وعلى اتجاه ثقافة وعلى نوعية من المثقفين العرب. كل منها له مواصفات فى بنيته أو عند صاحبه أو فى وظيفته أو فى واقعه الثقافى. وتدل على الحالة الراهنة للفكر العربى وربما على الوضع العربى الراهن كله لما كانت الثقافة هى المدخل للسياسة، وكانت السياسة هى عنوان العصر. وتحليل الخطاب الثقافى العربى لا يهدف إلى القدح فى أحد أنواعه بل يهدف إلى مجرد الوصف حتى يدرك الباحث العربى أن سلوكه أصبح خطابا ثقافيا، وأن خطابه الثقافى هو سلوكه. ويتكرر هذا الخطاب فى كل الندوات والمؤتمرات، حتى أصبح نمطا فكريا وخطابا نموذجيا يسهل التعرف عليه فى كل مؤتمر والتنبؤ به.
يُصاب المشارك فى الندوة بالحزن. ويشعر أن اشتراكه فيها مضيعة للوقت. فهو مجرد منبر للكلام. وكل مشارك سعيد بأنه أدى واجبه، وألقى كلمته للتاريخ أو لإثبات الذات أو لعرض بضاعته على الآخرين لمن يحب أن يتعرف عليها أو أن يتعامل معها كتعامل التجار فى الأسواق. معظمهم فرّج همه، وأثبت ذاته، وقرأ كلمته المعدة سلفا بصرف النظر عن الحوار مع المتحدث فى سؤال وجواب. يزحزح غيره ليأخذ مكانه، ويسرق الأضواء إذا ما سقطت على أحد غيره. يحرص على الكلام بصرف النظر عما إذا كان كلامه يتعلق بموضوع المتحدث أم لا.
والحقيقة هناك خطابان سائدان فى الثقافة العربية. الأول تصادمى استبعادى، تكفيرى أو تخوينى. مازال أسير حديث الفرقة الناجية. فالحق فى جانب واحد، والباطل فى الخطابات الأخرى مثل «الاتجاه المعاكس» الشهير. لا يحاور بل يريد أن ينتصر ويهزم الآخر. يترصد الأخطاء عند الآخر، ويتنمّر له كى يقضى عليه. وأحيانا يغار منه ويحقد عليه لأنه أكثر علمية ورزانة وموضوعية وحيادا فى وصف الأمور. يصول ويجول فى الميدان بمفرده بعد القضاء على خصمه، مبارزا فريدا، وبطلاً مغوارا منتظرا الخصم التالى للإيقاع به والانتصار عليه. يعرف الحقيقة مسبقا ويتعصب لها.
وهو الخطاب الذى يحدث أحيانا بين الدينى والعلمانى، الأول يرى أنه لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وأن الإسلام هو الحل. والعلمانى يرى أن الدين مظهر من مظاهر التخلف، ولا بديل عن العقل والتنوير وفصل الدين عن الحياة كما حدث فى الغرب بالفصل بين الكنيسة والدولة كحل لمشكلة الصراع بينهما، بين السلطة الدينية والسلطة المدنية وكما جاءت فى عصرنا بين السلفيين والعلمانيين. وهو نفس الصراع بين الخطاب الرأسمالى والخطاب الاشتراكى، كل منهما يستبعد الآخر بالرغم من انهيار الأنظمة الاشتراكية منذ أوائل التسعينيات، والأزمة المالية العالمية الأخيرة فى النظام الرأسمالى. كل خطاب يستبعد الآخر، صراعا على الثروة فى المجتمع وربما المكسب الخاص إذا كان صاحب الخطاب الأول صاحب شركة، وصاحب الثانى لا شىء لديه. وهو نفس الصراع بين الخطاب القُطرى والخطاب القومى. الأول يحرص على حدود القُطر وعدم تسرب الثروة خارجه أو الفقر داخله عن طريق العمالة المهاجرة. فمصر أولا، والكويت أولا، والأردن أولا حتى يتخلى كل قطر عن مسؤولياته العربية المالية أو العسكرية أو النضالية من دول الجوار أو من دول رأس المال. وهو نفس الصراع بين العولمى والوطنى. الأول يريد الذوبان فى نظام العالم الجديد دون حماية لصناعاته الوطنية واستقلاله الوطنى. والثانى يريد المحافظة على استقلاله الوطنى وحماية صناعاته الوطنية. كل خطاب يعبر عن مصلحة. وبالتالى يتحول صراع الخطابات إلى صراع مصالح، ويُرد تنوع الخطابات إلى تنوع جماعات المصالح. فالمعرفة مصلحة كما يقول علماء اجتماع المعرفة.
والنوع الثانى من الخطاب هو الخطاب الموازى أو المجاور. لا يسمع ولا يحاور. يضيف خطابا آخر على الخطاب الأول بجواره، موازيا لا يتقاطع ولا يتقابل. وهو معد سلفا. كل خطاب يعرف الحقيقة دون البحث عنها أو الاستفادة من الخطاب الآخر. هو ما يسمى «حوار الطرشان». لا أحد يسمع الآخر، لا سلبا ولا إيجابا، لا رفضا ولا قبولا. الأعلى صوتا هو الأقرب إلى الحقيقة، والأكثر كلاما هو الأعظم برهانا. والأعظم غنى فى البلاغة هو الأقرب إلى قلوب الناس وتصديقهم، والأشد تأثيرا فى الناس هو الأكسب للجولة والأكثر حضورا على الساحة الثقافية. نادرا ما يحدث تقاطع أو تكامل أو حوار. لا يوجد إثراء متبادل بين وجهات نظر متعددة. ولا يوجد تراكم معرفى ولا يحدث غنى فكرى أو اختيار بين عدة بدائل. ويغيب الفكر القومى الذى يمثل الحد الأدنى من الإجماع الوطنى. تتعدد الخطابات ولا يتحرك الفكر ويظل فى مكانه لأنها لا تتلاقى فيما بينها لتوليد الطاقة اللازمة للحركة. الثقافة هنا كم بلا كيف، صوت بلا صدى، فرقعة بلا إصابة، طلقات فارغة لا تهدف إلى شىء.
وقد تدور هذه الخطابات فى مؤسسة فكرية واحدة يرأسها أمير أو وزير. تدور كلها فى فلكه. تبدأ بمدحه كما بدأت كتب القدماء بمدح السلطان، ناصر الله والدين، وبشكره على رعايته للثقافة، وأخذه بيد العلم والعلماء. والأمير أو الوزير سعيد بطاعتهم وبخطاباتهم التى تدور فى فلكه. وهو يحتويها كلها. فكلها خرجت منه كما خرجت كل الحقائق عن الحقيقة المحمدية كما يدعى الصوفية.
والأمير أو الوزير يسيطر على كل شىء. يترأس الجلسات والرئاسة لغيره، ويغير البرامج، ويحضر متحدثين ليسوا مدرجين بالبرنامج، وسعيد بالبطانة التى حوله. فالمنزل منزله، والمسرحية مسرحيته، مؤلفها وممثلها ومستمعها. وهو طبيعى فى المجتمع البطريركى الذى صوره نجيب محفوظ فى الثلاثية فى شخصية «سى السيد». وأمينة وكمال وفهمى وخديجة كلهم فى فلكه.
فإذا شذّ واحد عن النظام وخرج عن القاعدة كان غريبا خارجا على النظام المرسوم سلفا، متطاولا على هذا النظام، وأصبح موضع هجوم من المتحدثين والسامعين مزايدة عليه وتقربا للنظام. جهّلوه وطعنوا فى مكانته العلمية وأنكروا عليه أستاذيته. تعالموا وجهّلوا. وهو صامت لا يرد عليهم.
والسؤال هو: كيف يستقل الخطاب الثقافى العربى عن السلطة؟ كيف يعبر عن المصالح العامة وليس عن المصلحة الشخصية؟ كيف يحاور البعض بعضا، لا يتصادم ولا يتجاور؟ كيف يمتلك المثقف العربى الشجاعة الكافية كى يحمى استقلاله، ويحسّن صورته ويصبح أكثر فعالية فى مجتمعه؟
أحيانا تزدهر الثقافة وتكثر المنتديات الثقافية فى لحظات العجز والضعف عن الفعل. وتكون الثقافة حينئذٍ تعويضا وملئاً للفراغ. وأحيانا تكون الثقافة غطاء يستر أكثر منها مرآة تكشف. تضع فوق الواقع أستارا من المعلومات، ولا يزيد العلم به شيئا. أحيانا تكون الثقافة نقل معلومات من الموروث أو الوافد، نشرا أو ترجمة. وناقل العلم ليس بعالم. العالم هو من يقرأ بين السطور وليس الأسطر نفسها. الثقافة تحليل وليست تركيبا. لذلك اتبع الفكر والمفكرون المنهج التحليلى فى بداية أى نهضة ثقافية. والثقافة نقد أى تحليل الواقع وبيان مكوناته وبيان زيف الثقافة التى تغلفه وتمنع من تقدمه. الثقافة سلطة مستقلة عن أى سلطة أخرى، إمارة أو وزارة. سلطتها فى نقد الأنساق السابقة واكتشاف أنساق جديدة. فإن تحولت إلى سلطة أو عقيدة أو مذهب أو أيديولوجيا فقدت وظيفتها فى التحليل والنقد، وجاءت ثقافة أخرى بديلة تقوم بهذا الدور.
إن تحليل الخطاب الثقافى العربى مقدمة لتحليل الواقع العربى لتحريك ثباته. حركه الوحى قديما. فهل تستطيع الثقافة أن تقوم بدورها فى تحريكه حديثا؟