قبل حوالى عشر سنوات كنت أجلس فى ورشة تعليمية بعنوان (الكتابة القانونية)، وكان المحاضر يعلمنا كيف نكتب ما نريد ونعبر عن آرائنا دون أن نسىء لأحد أو نورِّط أنفسنا فى مساءلة قانونية، كان الرجل يتحدث عن أهمية احترام القوانين حتى إذا كانت معيبة، وكان يؤكد أن إقامة دولة القانون واحترام سيادته أولوية لدعاة الديمقراطية والمدافعين عن حقوق الناس، كان يتحدث عن أدبيات الكتابة عن حالات الانتهاكات وضرورة حفظ خصوصيتهم وتناول قضاياهم بما لا يؤثر عليهم نفسياً بشكل سلبى، خاصة فى ظل ما تعرضوا له من انتهاك وتعذيب.
سأل أحد الحاضرين العرب المحاضر عن تفاؤله بشأن إمكانية تحقيق الديمقراطية فى الوطن العربى فأجابه باسماً: «إحنا عايشين عمرنا عشان نحقق الحلم ده، ولو ملحقناش نشوفه ولادنا هيشوفوه، لأن الديمقراطية مش خيار يمكن رفضه، الديمقراطية ضرورة إنسانية، وقدر قادم لا فرار منه مهما رفضه الحكام والسلاطين»!
وعقب خمس سنوات كان الرجل يصافحنى بحرارة فى ميدان التحرير إبان ثورة يناير وقلبه يقفز من الفرح وهو يقول: «الحمد لله إنى عشت لغاية ما أشوف المصريين بيعملوا ثورة، ويطالبوا بحريتهم، وقدرت أشارك فيها أنا وولادى، الحمد لله ربنا فرحنا ورضانا»!
فى مارس 2016 يتم توجيه الاتهامات التالية لهذا الرجل: «تقديم مشروع قانون لمكافحة التعذيب والضغط على رئيس الجمهورية لإصداره، وإنشاء جماعة على أساس مخالف للقانون هدفها منع سلطات الدولة من القيام بأعمالها، والتحريض على مقاومة السلطات العامة وممارسة نشاط حقوق الإنسان دون ترخيص، وتلقى تمويل من الخارج، وإذاعة أخبار كاذبة عمداً، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة».
بمطالعة هذه التهم تتخيَّل أن المتهم بها أحد زعماء المافيا وليس المحامى المرموق والحقوقى المخضرم نجاد البرعى، إحدى أهم الشخصيات الحقوقية فى مصر والعالم العربى، والذى يحظى بتقدير واحترام دولى كبير نظراً لمهنيته وموضوعيته، التى جعلته فى نفس الوقت مستشاراً قانونياً لكبرى الصحف المصرية وكثير من الهيئات والمؤسسات التى تثق فى كفاءته.
المصيبة الكبرى أن نجاد البرعى الذى يحاول رفع الظلم عن الناس ومنع التعذيب عبر إعداد مقترح قانون وليس حمل سلاح أو متفجرات يتم اتهامه بكل هذه التهم، وكأن لسان الحال يقول: نحن نحب التعذيب، وإذا أردت أن تقاومه فسوف نتهمك وندينك ونعاقبك.
لا يمكن فصل ما يحدث مع «نجاد» عن مسلسل استهداف المجتمع المدنى المستمر عبر حملات التخوين والتشويه ورمى الاتهامات المرسلة والتهديد بتلفيق قضايا تلقى تمويل من مؤسسات خارجية، رغم أن غالبية تمويل مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر يأتى من منح مؤسسات خارجية تمنح تمويلاً للمؤسسات غير الرسمية وللحكومة المصرية ووزاراتها وعدد من مؤسساتها، مثل منح هيئة المعونة الأمريكية، وكل ذلك يتم تحت سمع وبصر ومراقبة أجهزة الدولة، ولكن فجأة أصبحت هذه تهمة ودليل خيانة وعمالة!
الأوضاع فى مصر تسير من سيئ إلى أسوأ، ومن يقومون بالتصعيد غير المحسوب ضد كل المعارضين وما يظنون أنه خطر عليهم يفتحون جبهات استعداء لا معنى لها. موضوع نجاد البرعى فضيحة دولية لمصر إذا لم يتم تداركه فوراً، ولتقل السلطة للمصريين والعالم: هل تحب التعذيب أم تقاومه؟ العمل المدنى ليس جريمة، ومؤسسات المجتمع المدنى ليست جماعات إرهابية مخالفة للقانون، كفانا تدميراً للوطن.