(1)
عندما تترقرق الدمعة في عين زكريا عبدالعزيز، ويسأل مستنكراً: أين العدل؟، فإن مصر كلها يجب أن تبكي.. مصر كلها يجب أن تخاف.. مصر كلها يجب تشك... مصر كلها يجب أن تنتبه، وأن تنتفض لاستعادة ميزان العدل من أيدي الذئاب.
(2)
زكريا عبدالعزيز رئيس نادي قضاة مصر في فترة من أعظم فترات نضال القضاة ضد التوظيف السياسي، يحاكمه الموظفون السياسيون بتهمة ممارسة العمل السياسي!
(3)
زكريا عبدالعزيز الذي رفع شعار استقلال القضاء عالياً لتسمعه كل مصر، يحاكمونه بلا مرافعات ولا تفنيد أدلة، في الوقت الذي يتم فيه تبرئة ضباط قتلوا، ولصوص سرقوا، ومسؤولين كذبوا، وخدعوا، ولفقوا.
(4)
زكريا عبدالعزيز الذي الذي التزم بموقف رجل العدالة في كل المواقف، وفرق بين الثورة على نظام مبارك، وحرق مؤسسات الوطن، وأسرع لتلبية استغاثة العاقلين قبل نهب وثائق أمن الدولة، يتهمونه باقتحام «مقر أمن دواة مقتحم» في وطن كانت الثورة صبحه ومساه!
(5)
زكريا عبدالعزيز، ليس جيلي، ولا تربطني به صداقة أو علاقة من أي نوع قبل اتهامه بهذه التهم المثيرة للغثيان والدالة على غباء من حركها (ولا أقول من وجهها! لتفويت الفرصة على المتربصين)، كنت أتابع أخباره ضمن انتفاضة القضاة من أجل استقلالهم عن السلطة التنفيذية عمليا، وتحسين ظروفهم المعيشية وأحوالهم الوظيفية، لتدعيمهم في مواجهة إغراءات الفساد، وحينها كانت لي تحفظات على هذه الحركة، واختلفت فيها مع الصديق عبدالحليم قنديل، أثناء تجربتنا المشتركة في العمل الصحفي والسياسي، كنت أتوجس من الانتفاضات الفئوية في مصر، وأراها تشكل ضرراً على مستقبل العمل السياسي، وأن القضاة بين نارين، الاكتفاء بتحسين أحوالهم الوظيفية والمعيشية بمعزل عن الهم الوطني العام، أو التورط في العمل السياسي بمفهومه الأشمل، لكن اندلاع ثورة يناير، قدم الحل لمثل هذه المشاكل، قالانتماء للثورة يعني الانتماء لمستقبل الوطن، وفي هذه الأثناء مارس الجيش السياسة، بل واضطر إلى الإمساك بالحكم، وتحول الفعل الوطني إلى فعل عام تمتزج فيه السياسة بالأخلاق بإدارة شؤون حياتنا اليومية، وضم ميدان التحرير وميادين الثورة في كل أنحاء مصر: مسؤولين سياسيين، وضباط، وعناصر مخابرات، ومثقفين، وفنانين، وقضاة، ومحامين، وكل عناصر الشعب باختلاف طوائفه وفئاته، فلماذا حوكم زكريا عبدالعزيز، ولم يحاكم غيره ممن تنطبق عليهم الاهامات الهزلية التي استهدفت تنحيته من المشهد؟!
(6)
قالوا إخوان. فتحريت عن إخوانيته (بالرغم من أنني لا أرى أن التعاطف مع الإخوان تهمة)، وقبل ان أقابله وجها لوجه واستمع منه لكل التفاصيل، كنت قد تيقنت من نزاهة الرجل، والتزامه بقيم العدالة التي جعلته يرفض أي منصب سياسي في تصريح شهير ومنشور استنكر فيه توريط القضاة في العمل السياسي وهو عمل وصل إلى حد التحريض والداعاية المبتذلة، كما تتضمن عشرات التسجيلات التي توثق الدور السياسي المباشر لرئيس نادي القضاة في ذلك الوقت أحمد الزند، ووجدت من بين تصريحات عبدالعزيز التي حفظتها تصريحاً قال فيه إن «أحمد الزند خان مهنته كقاضٍ، وخان زملاءه لدفعهم وتوريطهم في قرارات سياسية وليست قضائية»، وأظن أن هذا التصريح هو أساس القضية التي انتهت بإحالة زكريا عبدالعزيز للمعاش، وهو حكم أهون من الفصل، إذا قيست الأمور بالحسابات المال والمعاش، أما إذا قيست بحسابات القيم والمغزى السياسي فإن الإبعاد من منصة القضاء بأي سبب لا يرجع لإرادة صاحبه، يعد انتقاصا من تاريخه وتشكيكا في نزاهته، وهذا أكبر ضرر يمكن أن يصيب قاضِ يبنى اسمه وسمعته على النزاهة والعدل.
(7)
في ذلك الوقت كان الخلاف مشتعلا مع نظام محمد مرسي بعد الإعلان الدستوري، الذي اعتدى على سلطات القضاء، وحصن الرئيس وقراراته بنصوص امبراطورية (تسري على مصر كلها الآن، ولكن بدون إعلان دستوري)، وكان عبدالعزيز يرى ضرورة التزام القضاة بالإشراف على استفتاء الدستور، بينما يقود الزند اتجاه المقاطعة، ومن هذا الموقف تحديدا نبتت فكرة «أخونة» زكريا عبدالعزيز، بعد طمس شرطه المنشور بأن يتراجع محمد مرسي عن إعلانه الدستوري، فقد كان موقف صريحا وموثقا بالصوت والصورة: «القاضي لا يُمنع أو يمتنع عن أداء عمله، لأن هذا يتنافى مع شرفه المهني، ومصلحة الوطن والمواطنين». وأناشد مؤسسة الرئاسة أن تجمد الإعلان الدستوري أو توقفه لحين حل الأزمة بين الأطراف المتنازعة.
(8)
كان موقف عبدالعزيز هو موقف القاضي الذي يقف على مسافة من الأطراف المتنازعة، وموقف الزند هو موقف السياسي المنحاز ضد الإخوان، وهو الموقف الذي يلبي في ذلك الوقت رغبتي الشخصية ورغبة المعارضين بشدة للإعلان الدستوري، وبالتالي لحكم مرسي، لكن الرغبة السياسية في لحظة، لا تبيح لي ولا لغيري إدانة موقف عبدالعزيز المهني الذي يحدد مهام وواجبات القضاة، فالتقدير السياسي متغير وطارئ، والتقاليد المهنية أبقى وأكثر ثباتاً. لكن الزند يعمل بالسياسة أكثر مما يعمل بالقضاء، ويعمل للسياسة أكثر مما يعمل للقضاء، وفي أجواء الاستقطاب، والتضرع لآلهة الدولة العميقة، استفاد الرجل الاستثنائي وتورط في السياسة مشتاقاً من فوق لتحت، ولما تمكن سعى للانتقام من غريمه بتهمة ارتكبها هو وسادته، أكثر من غيرهم.
(9)
تبقى كلمة مختصرة وأخيرة: لا بأس أن يحال زكريا عبدالعزيز إلى المعاش، فالبلد كلها معاش، وقريبا بلا معاش نهائياً، لكن النظام القضائي يعترف بالقياس على سوابق الأحكام، وغداً سنقرأ الحيثيات، ونطالب بتطبيقها على قيادات ولواءات وربما رئيس جمهورية ارتكب ما ارتكبه زكريا عبدالعزيز، وساعتها سيحق لنا أن نطالب قضائيا وإعلاميا بعزلكم أيها الأوغاد، فكما تدين تدان.
وكله بالقانون... أبوأنياب.
(10)
يقول المثل العربي القديم: أول الغيث قطرة.. ثم ينهمر، وأول الحب نظرة.. ثم يستعر، ويقول المثل المصري الحديث: أول العزل سهل.. ثم ينتشر، فاعقلها يا سيدي واعتبر
.......................................................................................................................................
* وانبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا... (قرآن كريم)
عن كفالة النبي زكريا لمريم بنت عمران، والسؤال للتحبيب والدعم وليس للاستنكار.
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com