■ مازال البعض يردد حتى الآن أن مجلس النواب سيد قراره.. أو أنه حتى سيد لائحته، بل وقد اعتنق المجلس نفسه ذات المبدأ، ورفع رايته بأنه وحده، ولا أحد غيره، سيد قراره، ولا يملك أحد أو أى سلطة أخرى رده، أو مراجعته، أو مساءلته، وكأنه سلطة فوق كل السلطات.
■ وتناسى مجلس النواب، بهذا القول الباطل، أن الدستور هو السيد، وأن القانون أيضاً هو الحَكَم، وأن اللائحة هى الضابط لجميع أعماله وتصرفاته وقراراته، لكن استمرار هذا القول الباطل، استصحاباً لما كان يحدث قبل ذلك طيلة أعوام طويلة مضت، عندما كان المجلس يفصل فى صحة عضوية أعضائه، وينتظر تحقيقات محكمة النقض فى الطعون المقدمة فى صحة العضوية، ليفصل بأغلبية أعضائه ولصالحهم على هواه وكيفما يشاء، بغير رقيب أو حسيب.
■ ونسى المجلس أيضاً أو تناسى أن أحكام القضاء المطردة، من القضاء العادى والقضاء الإدارى، قد استقرت على مساءلة المجلس، ورقابة قراره، وإلزامه بسداد التعويضات عن قراراته الخاطئة، متضامناً مع وزارة الداخلية التى كانت مسؤولة خلال عهود سابقة عن تزوير الانتخابات فكان الأول - وهو المجلس - مسؤولاً عن قراراته الخاطئة برفض التحقيقات وإعلان صحة العضوية، والأخرى - وهى وزارة الداخلية - مسؤولة عن الخطأ وإخلالها بسلامة العملية الانتخابية، لكنها مساءلة ورقابة عن الأعمال والقرارات الخاطئة التى تصدر من البرلمان بالالتزام بأحكام القانون واحترام نتائج تحقيقات محكمة النقض، وفضل المجلس سداد التعويضات مرحباً بالبطلان مرتين، مرة عند رفض تحقيقات محكمة النقض وإهدار المشروعية، ومرة أخرى بسداد التعويضات من أموال الشعب واستمرار نواب قفزوا إلى المجلس بالتزوير.
■ نعم يا حضرات، نسى مجلس النواب أو تناسى مسؤولية المجلس عن الانحراف فى استعمال سلطته، عند إصدار القرارات أو الأعمال أو حتى عند مباشرة سلطة التشريع، كتب فى هذا الموضوع الدكتور عبدالرزاق السنهورى منذ قديم فى بحث قانونى شهير نشر بمجلة مجلس الدولة السنة الثانية عام 1953، فى ثمانين صفحة كاملة، استناداً إلى نظرية القانون الأعلى، لأن الدستور والقانون هما السيد الذى يحكم كل التصرفات والقرارات، حتى لو كانت صادرة من البرلمان.
■ بل غفل مجلس النواب الموقر التطور الدستورى الحادث الذى أغلق الباب على قاعدة سيد قراره الشهيرة، بالمادة 107 من الدستور، وخص محكمة النقض بالإعلان عن صحة العضوية، أو الحكم ببطلانها، بحكم يلزم المجلس بتنفيذه، بل تعتبر العضوية باطلة منذ إعلان المجلس بحكم محكمة النقض، وهو نص دستورى حديث عوداً إلى ما كان منصوصاً عليه فى دستور 1923، ودستور 1930، وبعد حذفه منذ دستور 1956 وحتى دستورنا الجديد الصادر عام 2014 ليعلن رقابة القضاء، ويسلب البرلمان سلطته حول صحة العضوية وسيد قراره.
■ كذلك غفل مجلس النواب الموقر أيضاً عن نصوص الدستور التى حظرت فى باب سيادة القانون تحصين أى عمل أو قرار من رقابة القضاء، وأكدت على حق الدفاع واعتبار الاعتداء على الحقوق والحريات جريمة جنائية ومدنية لا تسقط بالتقادم وكفالة الدولة التعويض العادل.
■ ومنذ نحو ست سنوات كتبت فى أخبار اليوم، وتحديداً العدد الصادر فى 18 ديسمبر 2010، عن رقابة البطلان وسيد قراره، بمناسبة انتخابات مجلس الشعب 2010، ليكون الدستور والقانون هو السيد، وليس مجلس النواب، ففى دولة القانون تخضع الدولة بجميع سلطاتها الثلاث للقانون، لأنه هو أساس الحكم فى الدولة كنص المادة 94 من الدستور الجديد، وكل سلطة تحد السلطة وفقاً لاختصاصاتها المحددة بالدستور، فالسلطة القضائية تختص بالفصل فى المنازعات والطعون والرقابة على جميع التصرفات والقرارات والأعمال لباقى السلطات الأخرى وفقاً للدستور والقانون.
■ فمن يراقب السلطة التشريعية إذا خالفت الدستور، وخرقت أحكام القانون، وأهدرت قواعد اللائحة التى أوجب الدستور أن تصدر بقانون أيضاً، طالما أن تحصين تلك القرارات والتصرفات محظور، وهى لم تحصن بعد، ولا يجوز تحصينها، فمن يراقب قرارات وأعمال مجلس النواب، المخالفة للقانون واللائحة، طالما قد خلت النصوص والأحكام من طريق خاص للتظلم أو الطعن فيها، فإذا كان فى نطاق سلطة التشريع فباب المحكمة الدستورية مفتوح، وإذا كان قراراً أو عملاً فباب القضاء مفتوح كذلك، بل إن قرارات السلطة القضائية وأعمالها ذاتها عرضة للتظلم والطعن، بل حتى الأحكام القضائية تحاكم عن الخطأ الجسيم وتجعلها عرضة للمساءلة والحساب، ومجلس النواب ليس سلطة فوق السلطات، فتصرفاته وقراراته.. بل تشريعاته كذلك خاضعة للرقابة القضائية وغير محصنة، ولم يعد أحد أو أى سلطة فوق القانون، أو سيد قراره فى دولة القانون!!
■ ومن يرى فى هذا القول بدعة.. عليه أن يقول لنا ماذا لو خالف مجلس النواب أو خرج على الدستور والقانون أو اللائحة.. خاصة وقد تمتع بسلطات وأحكام كثيرة فى الدستور والقانون.. فى مواد عديدة، منها علانية الجلسات وصحة انعقاد جلساته وتفرغ أعضائه.. أو إسقاط العضوية لأسباب وصور عدة محددة بالقانون.. أو اتهام الوزراء.. أو سحب الثقة.. أو أى من سلطاته الأخرى المقيدة بأحكام الدستور والقانون.. لأنه فى دولة سيادة القانون لا أحد فوق المساءلة والحساب.. ولا حصانة لقرار أو عمل من رقابة القضاء، وإلا فقل على الدنيا السلام!!
■ وقد أحسنت اللائحة القديمة، أو مشروع اللائحة الجديدة، عندما حددت إجراءات الجزاءات البرلمانية، وخصتها بفصل مستقل، تبدأ باللوم وحتى إسقاط العضوية، وحددت قواعدها وإجراءاتها، ثم خصت باباً لانتهاء العضوية سواء بإبطالها أو إسقاطها، وخصتها بإجراءات منفردة تتناسب مع خطورة الجزاء المقرر لإسقاط العضوية، وتحفظ حق العضو وحق المجلس فى ذات الوقت، وأنه فى جميع الأحوال لا يجوز تشكيل لجنة خاصة لنظر الطلب المقدم بإسقاط العضوية، وأن الاقتراح بإسقاط العضوية يجب أن يندرج فى جدول أعمال جلسة تالية، وهذه الإجراءات المقررة واردة فى نصوص اللائحة القديمة، وهى ذاتها مقررة فى نصوص المشروع الذى تجرى مناقشته، وقد وردت فى أربع مواد كاملة.. فإذا خالف المجلس هذه القواعد والأحكام.. أى خالف القانون.. فهل يظل بعيداً عن المساءلة والرقابة وهل يكفى الاحتجاج أو الاعتصام بأن المجلس سيد قراره حتى لو خالف الدستور والقانون؟! والقول بأنه سيد قراره فى ظل سيادة القانون، التى يؤكد الدستور على أن القانون أساس الحكم فى الدولة.. بل سلطاتها الثلاث، بما فيها السلطة التشريعية، من شأن ذلك أن يبطل تلك القاعدة الشهيرة التى صارت ذائعة الصيت.
■ والقضاء المصرى على تاريخه راقب أعمال السلطة التشريعية منذ قديم، عندما تصدر قوانين مخالفة للدستور، فكانت أحكام القضاء فى الرقابة على أعمال التشريع قبل إنشاء المحكمة العليا عام 1969، والمحكمة الدستورية منذ دستور 1971، والقانون رقم 48/1979، بدءاً من رقابة المحاكم الجزئية منذ العشرينيات حتى لو امتنعت عن تطبيق القانون، فكانت حافلة بالرقابة القضائية على العمل التشريعى.. فراقبت التشريع.. وحاكمته.. وامتنعت عن تنفيذه لوجود عوار فى القانون وكان ذلك منذ العشرينيات.. وامتد إلى الأربعينيات، سواء كان بمناسبة دفع أصلى أو فرعى، لأنها - أى السلطة التشريعية - ليست فوق المساءلة، أو لا تتأبى على المساءلة، حسب مفردات أحكام محكمة النقض، وكذلك أحكام مجلس الدولة، ولذلك آن الأوان حتى مع وجود فراغ تشريعى أن يجدد القضاء المصرى عهده.. واجتهاده فى كل زمان، فيمتد اختصاصه وسلطاته إلى الرقابة.. على أعمال السلطة التشريعية وتصرفاتها.. متى طالعت الدستور والقانون أو حتى لائحة المجلس ذاته، لأن القاضى دوماً سيظل هو المشرع فى بعض الأحوال، وهو تطبيق القانون وتفسيره، وينهض لتحقيق العدل أينما كان وهو يمارس الرقابة ويفصل فى المنازعات حتى لو كانت ضد قرارات وأعمال وتشريعات مجلس النواب!!