للكبار فقط

وليد علاء الدين الإثنين 07-03-2016 21:52

مشكلتنا في الواقع هي غياب الإطار التنظيمي؛ لو أن الروائي أحمد ناجي نشر فصل روايته في مجلة يحمل ترخيصها تصنيفًا يتيح لها نشر «مواد إباحية»- لم أقل فاحشة ولم أستخدم وصفًا أخلاقيًا...إنه تصنيف دولي- فإن المشكلة عندئذ تصبح مشكلة المستهلك الذي اختار المطبوعة من على الرف ودفع ثمنها وهو يعرف أنها مصنفة، وبذلك تختلف قواعد اللعبة.

في أمريكا؛ بلد الحريات كما يتخيلها الكثيرون، توجد هيئة خاصة بتقييم الأفلام السينمائية تضم من 10 إلى 13 عضوًا، لا تملك هذه الهيئة صلاحية المنع أو الحذف أو القص، فهي ليست رقيبًا بالمعنى العربي للرقابة، ولكنها مخولة بتصنيف الأفلام ومنحها علامات وفقًا للمحتوى، بمجرد بوضع هذه العلامات على الأفلام ينتقل الأمر إلى مساحة الاختيار الحر.

تبدأ العلامات من G للجمهور العام، وهو الفيلم الذي يناسب كافة الأعمار وكل المشاهدين، ثم PG وهي أفلام «تنصح» الهيئة بأن تتم مشاهدتها بصحبة الآباء لأنهم «قد يعتبرون بعض المواد في الفيلم غير مناسبة لأبنائهم، وهم أصحاب القرار في ذلك»، يلي ذلك تصنيف PG-13 وهو يشمل الأفلام التي توصي الهيئة بأن يتفحص الآباء محتواها قبل السماح لأبنائهم بمشاهدتها لأنها قد تتضمن «مشاهد عري، عنف، مخدرات، لغة نابية، ومشاهد جنسية».

يتصاعد التقييم ليصل إلى الرمز R الذي يعني restrected وهو فيلم محظور على غير البالغين (أقل من 17 سنة) مشاهدته إلا بصحبة أحد الوالدين أو شخص بالغ، لأنه «يحتوي مواد للبالغين (جنسية)، موضوعات جنسية، فعاليات جنسية، لغة نابية جدا، عنف شديد، عري ذا طابع جنسي، استعمال مخدرات، وأمور أخرى، تتطلب أن يؤخذ الأمر بجدية بالغة من قبل الأهل».

وآخر التصنيفات هو NC-17 ومعنى ذلك أن الفيلم الذي يحمل هذا الرمز «غير مناسب أبدًا للأبناء من ناحية احتوائه مشاهد جنسية صارخة، ولا يسمح لأحد دون ال17 سنة بمشاهدته».

هذا هو الحال في بلاد «الانحلال»، تنظيم وضبط وربط، أمّا والحال عندنا «خلطبيطة يابو عيطة وهردبيسه يابوعيسى...» فإن احتمال أن يدخل أحمد ناجي السجن يساوي احتمال أن يدخل توفيق عكاشة البرلمان ... أو يخرج منه، لا معيار يمكن ضبطه ولا منطق يمكن الاحتكام إليه... ولا حتى من خلال استعمال النرد وفق نظرية الاحتمالات.

ينبغي بالطبع أن أقف هنا وقفة ضرورية للتذكير بأنني غير موافق على فكرة الحبس مقابل الكلمة، مع اعتذاري لمن فَهِم ذلك ضمنًا؛ ففي بلادنا عليك أن تصرخ مع الجميع ومثل الجميع، أما إذا أحببت أن تناقش أصل المشكلة أو تفكر في أبعادها فمعنى ذلك أنك إما موافق على حكم الحبس إذا كنت في مقصورة المبدعين، أو أنك معترض على أحكام القضاء إذا كنت في مقصورة الغاضبين!

لذلك أؤكد أن كلامي ليس الهدف منه لا هذا ولا ذاك. إنما هو استغلال رأيته حسنًا للحدث، للمطالبة بإطار تنظيمي هدفه حماية المبدعين من غباء الأحكام المبنية على تصور محدد للأخلاق.

الغريب في قضية أحمد ناجي، والذي لم يتحدث عنه الكثيرون، أو يتعمدون عدم الحديث عنه، أن رئيس تحرير أخبار الأدب بنفسه قال في التحقيقات أنه لم يقرأ، وأنه لو قرأ الفصل لما نشره (!)

طبعًا كلامه لا يؤخذ باعتباره حكم قيمة أو حتى حكم ذوق على العمل (وإن جاز ذلك)، ولكن الأقرب إلى الظن أنه دراية بالمناخ العام وبالتوجه العام للصحيفة. إلا أنه في كل تأويلاته يعطي مؤشرًا قويًا على أن نشر محتوى كهذا في غياب إطار تنظيمي منضبط يمكن أن يتسبب في كارثة.

الإطار التنظيمي يضمن حريات الجميع المختلفين، ليس لأنه يُنهي الخلافات ولكن لأنه يجعلهم يدركون أبعاد اختلافهم.

عندما نقرأ -أنت وأنا- الفصل المنشور من رواية ناجي -بما يتضمنه من وصف مباشر لممارسات جنسية وأسماء الأعضاء الجنسية- قد نختلف في رد الفعل، اختلافنا ناجم عن اختلاف روافد الثقافة والفكر والمرجعيات، سوف تسوق ألف حجة وأردهم لك ألفين... ولا سبيل لتقريب وجهات النظر؛ عندك تصورك للأخلاق وللكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الإبداع وعندي تصوري لكليهما.

لن يفيدك تصوري ولن يفيدني تصورك، ولكن يفيدنا معًا وجود إطار تنظيمي لا يقتحم ذائقتي بما لا أريده ولا يفاجئك بما لا تحبه.

هذا الإطار معني بإحالة الأمر إلى مجال لا خلاف فيه؛ مجال الاختيار الحر عندما يتعلق الأمر بالبالغين والراشدين بالمعنى القانوني، كما أنه معني بحماية القُصَّر -بالمعنى القانوني كذلك- إلى أن تصبح لهم إرادة الاختيار الحر.

قد تكون رب أسرة متفتح تحب أن يتعرف أبناؤك على عوالم الإبداع ويتابعون بعض قضايا الثقافة والفكر ليتدربوا من صغرهم على حب الإبداع والأدب، فتنتقي من المطبوعات «العامة» ما يحقق لهم ذلك، وسوف يزعجك بالتأكيد أن تقع أعينهم فيما اقتنيته لهم بنفسك على ما تحاول أن تحميهم منه من مفردات وأوصاف تراها سوقية أو مفتقرة إلى الأدب أو تنافي الأخلاق وإن كانت شوارعنا ووسائل مواصلاتنا مكتظة بها، ولكنك ما زلت تمتلك حرية اختيار ما تشتريه وتُدخله إلى بيتك.

فماذا إذا خالفت المطبوعة هذا التوقع من دون تنبيه أو إنذار؟

هنا تبدو أهمية الإطار التنظيمي -كما أعنيه- وهو إطار لا يقمع الحريات بل يُنظمها، فالحرية في أبسط تعريفاتها إطار تنظيمي يمنع استخدام كل شخص لما يراه حريته الشخصية على حساب حريات الآخرين. وكل حديث عائم عن الحرية هو تجريد لا تحتمله الحياة.

يبقى أن وضع إطار تنظيمي ليس بدعة نطالب بها، فآلياته ونماذجه معروفة في العالم كله... لن نخترعه، فقط علينا أن نجتهد في صياغته عبر القنوات السليمة مع الاستعانة بالخبرات اللازمة، وبمجرد أن يتم تطبيقه سوف يتحرك السقف وفقًا للحراك المجتمعي مع الزمن والتجارب؛ لأن الإطار سوف يوفر للجميع فرصة الإطلاع على كل شئ- مع أو ضد- مما يسمح بتكوين الرؤى وتطوير الأفكار. إلا أن الإطلاع في هذه الحالة سوف يكون وفق إرادة الاختيار الحر، فلا يعود من حق أحدهم أن يقول: خدشتم حيائي، أو ينبرى آخر للدفاع عن الحياء العام. أو ثالث عن الأخلاق... فلم يعد الأمر مرهونًا بذوق وثقافة أفراد بأعينهم حتى لو كانوا رجال القضاء.

نرتاح كثيرا إذا أدركنا أن الحرية مجرد إطار تنظيمي يحمي المختلفين من محاولة فرض اختلافاتهم على الآخرين... فتصبح الأمور بسيطة والحياة جميلة.

* شكرًا لمدونة الراصد السينمائي التي استعنت بها في شرح تصنيفات الأفلام.

waleedalaa@hotmail.com