«خطاب مصر».. الواجب والغائب..!

مصطفى حجازي الأحد 06-03-2016 21:50

لن أتوقف كثيراً أمام ما حضر فى خطاب الدولة بمناسبة عرض مشروع رؤية مصر ٢٠٣٠.. والذى أوردته منابر الإعلام والتواصل.. بين داعم ومعارض.. وبين قابل ومنكر.. وبين ناقد ومتهكم.. ولكن ما يتوجب الوقوف أمامه أكثر.. هو الغائب والواجب فى «خطاب مصر».. «دولة» و«مجتمعاً».. !

لن أتوقف كثيراً عند مجمل السياق النفسى.. والذى دفع بالعاطفة لأن تهيمن.. فمصر كلها عُرضةً لضغوط نفسية هائلة.. !

لن أتوقف كثيراً عند مفردات حضرت.. تُعد من مفردات الاستبداد حتى وإن غابت نيته..!

لن أتوقف عند روتينية الطرح.. وجمود الحشد.. !

لن أتوقف عند استثناء المفكرين والمثقفين.. فخطاب الدولة «البروتوكولى» لم يَسُب العقل.. حتى الآن على الأقل..!

أما ما أريد أن نتوقف عنده كثيراً ونتأمله كثيراً.. هو مصر الغائبة فى خطابها الشعبى والرسمى..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب مصر» المتأخر والمتوجب لكى «نقرأ حقيقة أوضاعنا.. قراءة علمية منطقية عادلة».. بعيدة عن شطط العواطف وحماسة التمنى وأحلام اليقظة ومدخلات الدجل الممزوجة بالفولكلور..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب مصر» الغائب «عن البدايات المؤجلة لإصلاح جذرى فى كل مؤسساتنا».. بادعاء تدرج الإصلاح.. وكأن التدرج يعنى الإبقاء على الفساد مع كثرة الحديث عنه..!!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب مصر» المراوغ عن «إصلاح حقيقى للتشوه الحادث فى علاقة مؤسسات الدولة بأبناء المجتمع» وفرضية العلو بالسلطة التى صارت عقيدة تشرعن لتلك المؤسسات أن تستبيح وقت المواطن وعقله وجسده.. بل تستبيح حريته وكرامته وحياته ذاتها..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب مصر» الواجب والغائب.. عن «بناءٍ جادٍ لنخبة مصرية مؤهلة» تحمل أمانة الانتقال الآمن بمصر لمستقبلها..

وعن كيفية «البحث المضنى عن عناصر تلك النخبة الكفئة» فى المجتمع.. بعيداً عن التجنيد السياسى لمماليك جدد من المؤلفة جيوبهم- قبل قلوبهم.. وبعيداً عن الابتزاز والمساومة على لقمة العيش والأمن.. بل على الحياة ذاتها..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب مصر» التائه والمستحق «لدحض الادعاء- البائس- المتكرر أمام كل طوفان قائم أو قادم.. بأن مصر تعدم البدائل».. ويبقى قدرها أن تقبل بأى متاح من كوادر أو عقول أو حلول.. موروثة أو مفروضة أو مرفوضة.. طالما جاءت من ذات المعين البيروقراطى الآسن..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً هو.. «خطاب مصر» العلمى المنهجى- والتائه- عن كيفية «صناعة تلك البدائل» وتحرير الناس من التضحية دائماً بالاختيار بين السيئ والأقل سوءاً..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو مصر الغائبة فى خطاب يُذَكرنا بأننا بشر.. من يَحكُمون بشر.. ومن يُحكَمون بشر.. من يتسلَطون بشر.. ومن يُقهرون بشر.. لا نملك فوق قدرات البشر ولن نتجاوز سقف عقولهم.. فعلينا أن نسلك مسلك البشر علماً ومنطقاً.. وألا نبقى ذاهلين إلى السماء أو إلى قباب القصور.. ننتظر أن تحدث لنا الخوارق.. من كرامات الصالحين أو فيض العباقرة..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو مصر الغائبة فى خطاب «يُلزمنا جميعاً.. دون تجارة للشعارات ودغدغة للمشاعر.. بأننا شركاء فى هذا الوطن».. فى واقعِهِ ومصيرِه وبناء مستقبلِه.. شراكتنا بأهليتنا.. أكرمُنا عند الوطن أخلصنا.. بأهليته قبل عطائه.. وليس أكرمنا بنسب مؤسسى أو سلطوى..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً.. هو «خطاب الصدق مع النفس» فى شأن كيف انهارت دول نتباكى عليها كالعراق وسوريا وليبيا واليمن.. وكيف شُردت شعوبها وضُيعت ثرواتها.. عندما صار بقاء أنظمة السلطة فيها هو مفهوم بقاء الدولة.. قبل أن تُضيعها المؤامرات.. !

ما أريد أن أتوقف معه طويلاً هو خطاب مصر الذاهل عن كيفية «استعادة معانى الوطن والدولة والقيم».. فى مجتمع اختزل كل المبانى وابتذل كل المعانى..!


كيف تُعلم طفلاً «معنى الوطن» دون أن تذكر كلمة «وطن».. بعد أن سمعها على لسان بذىء.. ورآها فى ضمير سقيم وعقل جامد..!

وكيف تُحيى فى وجدان شاب «قيمة الدولة» دون أن تضطر لاستخدام كلمة «دولة».. بعد أن رأى الكلمة وهى مسوغ للقمع وتوطئة للاستبداد به وسد أفق الأمل أمامه..! وكيف تُطالب مجتمعاً الالتزام بـ«القيم وحسن الخلق».. بعد أن رأى القيم لا تعدو كونها منظومة كذب لفظى.. تُستدعى عند الترويج الانتخابى والتدليس السياسى.. ولا علاقة لها بترقية سلوك، ولا بإقرار عدل..!

ما أريد أن أتوقف عنده كثيراً وأخيراً.. هو خطابنا القاصر عن مواجهة أنفسنا بكارثية «الإصرار على أن نقول نصف الحقيقة أو شبه الحقيقة» وأن نبنى مجتمعات تحيا نصف حياة أو شبه حياة..!!

العالم كله وليس مصر وحدها يحيا دورات تاريخية من طوفان الغرق الاقتصادى والاجتماعى والحضارى.. ولكن ما تعلمه العالم بالدم قبل العرق- وبفطرة الإنسانية فيه- أنه قبل أى طوفان.. عليه أن يصنع «فُلك النجاة» لشُعوبه ودُوَله وحضاراته..!

ولأننا لسنا بدعاً من الأمم.. فإن كنا نخشى الطوفان حقاً.. فلنتمثل قوله تعالى «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ».. فلتصنع مصر فُلْكَها.. ولتبحث أولاً عن القادرين على صناعتها.. قبل أى طوفان..! مصر تتحدث كثيراً.. مصر- وعلى عهدة عمنا نجيب محفوظ- تثرثر فى الحقيقة..! ولكن يبقى.. خطاب مصر الواجب «غائب».. لأن مصر الواجبة مازالت «غائمة» فى وجداننا دولة ومجتمعاً..!

فَكِّرُوا تَصِّحُوا..