أصل العائلة* (هَوَسْ التَوريث-2)

جمال الجمل السبت 05-03-2016 22:33

(1)

مع بداية الألفية الثالثة، كانت هناك ترتيبات سرية للدفع بجمال مبارك للظهور بقوة على الساحة السياسية، والاقتراب من العمل العام، في تلك الفترة كان الدكتور بطرس غالي يقيم في باريس بعيدا عن القاهرة، وفي أجواء الاحتفال بعيد الميلاد المجيد التقى البابا شنودة، وتطرق الحديث بمودة إلى سؤال عن الصحة والعائلة، وبحكم المحبة ذكر بطرس الكبير سيرة ابن شقيقه.. وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في ذلك الحين يوسف رؤوف بطرس غالي، وذكره مقرونا بصفة «ممثل الجيل الخامس في العائلة»، وهي الصفة التي يحلو للعم أن يتفاخر بها مُذَكِّراً بعراقة عائلته، لكن بابا الكنيسة المثقف لم يجامله في الحديث عن «ممثل الجيل الخامس»، وانتقد إهمال يوسف في إدارة كنيسة جده بطرس الأكبر.! دوَّن غالي في مذكراته الملاحظة التالية: ابن أخى يوسف، وزير جيد للاقتصاد، لكنه إدارى سيئ للكنيسة البطرسية، لذلك وعدت البابا أنني سأهتم شخصياً بإدارة أعمال الكنيسة عندما أقيم في مصر..!

(2)

يوسف بطرس غالي.. هذا الإدارى السيئ لكنيسة واحدة، الذي يضطر عمه العجوز لتقديم وعد للقيام بعمله بدلا منه، يراه العم كبير العائلة: «جديرا بإدارة اقتصاد مصر»، فيتحدث بشأنه مع رئيس الوزراء كمال الجنزورى، ويوصيه به خيراً، لكنه بعد اللقاء يشعر أن الجنزوري تجاهل وساطته، ولم يستجب لرجائه أن يمنح يوسف المزيد من الثقة، وقد سجل ذلك بالتفصيل في مذكراته ووصف رئيس الحكومة بأنه: «رجل معقد، مَيَّال إلى الإمساك بكل نشاطات البلد.. وكانت علاقته بابن أخى يوسف ليست على ما يرام.. فسعيت لإصلاحها، واتفقت معه أن نذهب معاً للقاء رئيس الوزراء في محاولة منى لتحسين العلاقات، لكن ذلك اللقاء الثلاثى لم يساهم في تحسين وضع يوسف (...) وقد لمست ذلك بنفسي فيما بعد، فتابعت الاهتمام بأمر يوسف إنه»ابنى بالتبنى«.. شاب مديد القامة، يبلغ طوله مترا و80 سنتيمتر، حاد الذكاء، جاد في عمله وطموح، فلما أنجز دراساته العليا في القاهرة، نال شهادة الدكتوراة من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، بدأ عمله في صندوق النقد الدولى، ولدى عودته إلى مصر عين مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء عاطف صدقى، وبعد فترة قصيرة على انتخابى في الأمم المتحدة، عين وزيرا للتعاون، وكان حينها في الأربعين من عمره، مما جعله مرات عديدة يمازحنى بقوله:»سبقتك بخمس عشرة سنة. فأنت كنت في الخامسة والخمسين حين أصبحت وزيرا«.

(3)

لم يكن مبارك وحده إذن الذي يسعى إلى تقديم عصير السلطة لأولاده، فسباق التوريث كان مفتوحا للجميع، والإبن بالتبني يفاخر بأنه حطم رقم عمه في الوصول إلى الوزارة، ويباهيه بأنه سبقه بـ15 سنة، وهي الممازحة التي علق عليها بطرس الكبير قائلا: لم يتمكن يوسف قط من التخلص من هذه الثقة المفرطة الشائعة لدى التكنوقراطيين، ينقصه حسن التواصل، والمبادرة العفوية التي تجعل من التكنوقراطى سياسياً، أو تحجب أحيانا البعد التكنوقراطى في شخصية رجل السياسة، وهذا ما أكسبه أعداء أكثر من الأصدقاء، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء كمال الجنزورى، الذي لا يفوت مناسبة لمعارضة مشاريع ابي يوسف.

(4)

يحكي العم عن الإبن من منطلق الرعاية العائلية، وتسامح الآباء، وليس من منطلق السياسة ومسؤوليات الدولة، فيقول: إنى موضع ثقة يوسف والمؤتمن على أسراره، فأنا على معرفة واسعة بالوسط السياسى في القاهرة... لقد تربيت في السرايا، لذا أعرف كل الخفايا، كما يقول الشاعر. لقد كان لزاماً عليّ، طوال أكثر من 15 عاما، أن أتخطى المنافسات بين الوزراء، وقد صبرت كثيراً، وتحملت نصيبى من الإهانات.. أليست تلك هي القاعدة في السلطة؟ لكن الآن قد مضت 6 أعوام على مغادرتى القاهرة، ولم أعد مُلِمَّاً بأجواء المشاحنات والصراعات، وما يحدث في الكواليس خلال السنوات الأخيرة. لذا أعتقد أن نصائحى لن تكون مؤثرة لأنها تبقى مجرد نصائح عامة.

(5)

كان واضحا أن ترتيب أوضاع «ممثل الجيل الخامس» في عائلة غالى أهم من إصلاح اقتصاد البلد، ولنقرأ ما سجله غالي من ملاحظات تخص العلاقة بين مستقبل يوسف ومستقبل مصر: أراه اليوم (يوسف) مشغول البال، يساوره الشك في اختيار طريق المستقبل فأقول له: انتظر التغيير الحكومى المقبل، حينها سيكون الوقت مناسبا للتفكير بوضوح، لكن إذا كان في نيتك ترك السياسة للعمل في القطاع الخاص، فيجب أن يتم ذلك قبل نهاية العام، وبموافقة الرئيس حسنى مبارك، فكلما تأخرت كلما أصبح من الأصعب عليك إيجاد موقع في القطاع الخاص، لأن الشركات متعددة الجنسيات تفتش أكثر فأكثر عن موظفين قياديين شبابا، لكن يبدو أن الوزير الشاب يفضل البقاء في السلطة، ولا أظنه سيترك الحكومة على الرغم من العداوة التي يكنها له الجنزورى.!

(6)

يكمل غالي قصة سياسة البيوت والإدارة العائلية لمصر فيقول: لما عبر يوسف لي عن شعوره ببعض الخيبة، لأن وضع البلد الاقتصادى صعب، نصحته بأن يخفف من عدوانيته تجاه الآخرين، وبألا يعمل على إبراز كفاءته كإخصائى في علم الاقتصاد، وبألا يظهر تفوقه العلمى، لكنه خرج من وزارة الاقتصاد نهاية عام 2001 وتجرع «هزيمة سياسية»، لأن هذه الوزارة بالذات كانت تؤمن له نوعا من السلطة على كل المؤسسات المالية في البلد«.. عليه أن يكتفى من الآن فصاعدا بمنصب وزير التجارة الخارجية، وبصلاحيات أقل.

(7)

المضحك إلى حد البكاء، أن نقاشاً عائلياً تطرق إلى الأسباب التي أدت إلى هزيمة يوسف السياسية، وكان العم يفتش عن أخطاء ذاتية في سلوك وحنكة الإبن بالتبني، أدت إلى عدم وفاق بينه وبين رئيس الحكومة، لكن ممثل الجيل الخامس كان يرفض هذه الطريقة وقال لعمه: مافيش مشكلة في طريقتي.. والصعوبة في علاقاتي برئيس الحكومة والوزراء مجرد صراع الأجيال.. فأنا لم أبلغ بعد الخمسين من العمر، بينما يزيد عمرهم على السبعين!.

لكن لا يوسف، ولا عمه قدموا لنا تفسيراً: كيف أفسد «صراع الأجيال» فرصة التوافق بين وزير في الخمسين ورئيس وزراء في السبعين، من أجل مستقبل مصر؟، بينما لم يفسد «صراع الأجيال» فرصة التفاهم والتوافق بين بين إبن في الخمسين وعمه الذي يكبر الجنزوري بـ11 سنة، من أجل مواصلة أمجاد العائلة..؟!

أعتقد أنه هَوَسْ التَوريث..!

.........................................................................................................................................

* «أصل العائلة» هو عنوان الكتاب الشهير لفريدريك إنجلز، شريك ماركس في الفلسفة المادية، والكتاب دراسة رائدة عن شكل العائلة عبر التاريخ وعلاقته بالملكية الخاصة والدولة، وطبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية، وأظن أن معرفة نوية العائلات الصاعدة في أي مجتمع خلال عصر معين، تكشف لنا عن توجه هذا المجتمع، لذلك يسهل علينا أن نعرف حال مصر في أي زمن من نوعية وسلوك العائلات والأسماء الذائعة في ذلك الزمن.!

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com

%MCEPASTEBIN%