كونياك* (هَوَسْ التَوريث-1)

جمال الجمل الجمعة 04-03-2016 22:18

(1)

تتضمن مذكرات الدكتور بطرس غالى صورة تقليدية للعائلات السياسية، وما تثيره من جدال حول ثنائية «الولاء والأداء»، «التوريث والجدارة»، «الاستئثار والكفاءة»، وهذا لا يمنع أن يكون بين أفراد عائلة أكثر من شخص جدير بمنصبِ أو مسؤولية، لموهبة، أو دراسة متخصصة، أو خبرة تؤهلهم لذلك، وقد يتقلد أفراد من عائلة أخرى مناصباً ومسؤوليات لا يستحقونها تحت تأثير العلاقات والوساطات، و«العزوة»، أو رغبة عائلات تذوقت السلطة قديما مثل عائلة غالي في إرساء تقاليد تتوارثها أجيالا بعد أجيال، وكأنها منحة سماوية مغروسة في الجينات.

(2)
غالى الذي كان الرئيس مبارك يناديه على سبيل الدلال بلقب «بطرس الأكبر» يصف بنفسه جوانب من الدور السياسى لعائلته، خلال لقاء معه في التليفزيون البرتغالى، قال فيه: عائلتى تتمسك بالسلطة منذ أجيال.. لقد انتخبت أمينا عاما للفرانكفونية، بينما ابن أخى يوسف يشغل وزارة الاقتصاد المصرى، وأعتقد أنني مهما كبرت في العمر لا استطيع أن ابتعد عن السلطة، لأنها أصبحت بالنسبة لى نوعاً من الإدمان.. لذلك أصبح لدى مفهوم أوسع للسلطة، فلم تعد سياسية فقط، تعلمت جيدا أن السلطة يمكن أن تكون ثقافية.. مثل نشر المقالات والمشاركة في الندوات، ولكن لا بد لى أن أعترف وأقر بأن السلطة السياسة لها نكهة خاصة، فهى مثل الخمر القوي، الذي تصل نسبة الكحول فيه إلى أكثر من 50% (مثل البراندي والعرق والجن)، لذلك فإنه بعد تجرعه لفترة مهما كانت قصيرة، فإنه يحرق الحلق، ويؤثر على حاسة التذوق، فيمنع الإنسان بعد ذلك من الاستمتاع بالطعام اللذيذ المتمثل في السلطة الثقافية.!

(3)
يتساءل غالي بصراحة تكشف مدى جاذبية السلطة عليه وعلى الأكاديميين والمثقفين من وجهة نظره فيقول: من هو الأستاذ الجامعى الذي لم يحلم في وقت من الأوقات بأن يصبح المستشار الخفى لرجل دولة نافذ؟!.. هذا الحلم حتى لو لم يتحقق، ليس سوى طريقة غير مباشرة لتذوق طعم السلطة السياسية.

(4)
هكذا يحدد غالي مفهومه الأساسى للسلطة، إنها باختصار وبشكل أساسي هي «السلطة السياسية» وفقط، موضحا أن «السلطة الثقافية» مجرد مرحلة مؤقتة تنتهي عندما يتذوق المرء طعم المنصب السياسي، لأن الناس تهتم أكثر بالسياسي وليس بالمثقف، فالسياسة في بلادنا، وربما في العالم كله تطغى على كل شئ. ويضرب غالي مثلاً بما حدث معه يوماً في مدينة بور سعيد عندما ذهب للمشاركة في إحدى الندوات بداية عام 2002، فعندما وصل فوجئ برجال الأمن يخبرونه بوجود مظاهرات ضده في وسط المدينة!.
سأل مندهشاً: مظاهرات ضدي؟.. ليه؟
قال الضابط: احتجاجا على القانون الذي صدر قبلها بيوم لفرض ضرائب جمركية على البضائع المستوردة!.
يكتب غالى: كالعادة الناس تخلط بيني وبين ابن شقيقي وابني بالتبنى الوزير يوسف بطرس غالي، ولا تجدى محاولات الأمن لإقناع المتظاهرين، أن الذي يزور بورسعيد اليوم ليس ابن الأخ «بطرس الصغير»، بل عمه «بطرس الكبير»، فذلك لا يمثل أي فرق بالنسبة إليهم: الاثنان مذنبان.. لافرق بين العم وابن الأخ، فهما ينتميان إلى العائلة نفسها!.

(5)
هذه الصورة الإجمالية التي يتعامل بها الناس مع العائلة لم تأت من فراغ، لأن تقاليد التعامل في العائلة تساعد على هذا التقارب والامتزاج في التسميات، والاهتمام بالسلطة، والدعم المتبادل، بحيث لا تستطيع أن تفصل المواثقف بين فرد وآخر، وغالى بنفسه يؤكد ذلك في مذكراته، فهو يتحدث أثناء عشاء عائلى مع مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق، فيقول: «إن خليل هو الأقرب لي بين رؤساء الوزراء الخمسة الذين تعاونت معهم، وهو الآن لايزال يحتفظ برونقه برغم أنه في الثمانين، ويدير أحد أكبر البنوك بعقل راجح وذكاء لم تضعفهما السنون، كنت أتحدث معه عن الوضع في مصر، وعن نشاط ابن أخى يوسف الذي ينتمى إلى الجيل الخامس في العائلة من الوزراء الذين يضعون أنفسهم في خدمة الدولة».. وفى موضع آخر يفاخر غالي بيوسف ويغمز ضد مؤسسات الحكم فيقول: يوسف لا يغلب حين يتعلق الأمر بالأرقام والإحصاءات، لكن من الواضح أنه لا يفهم كثيراً في «مكائد القصور» مع أن هذا الموضوع بالذات يشكل الخلفية الأهم التي تستند إليها السلطة السياسية..!
وغدا نحكي بوضوح أكثر عن أعراض هوس التوريث ومخاطر السياسة العائلية..
........................................................................................................................
* الكونياك هو الاسم التجاري لخمر البراندي

جمال الجمل
tamahi@hotmail.com