فزعت الأوساط العلمية في نهاية العام 2014 حين اجتمعت زمرة من الأسود وهاجمت فهدًا صغيرًا وقتلته في حديقة الملكة إليزابيث الوطنية في أوغندا، وهو فزعٌ طالما هز العلماء لدى رؤيتهم صراعًا ينتهي بالقتل بين الأسود والفهود، التي لا يوجد لدينا إلا سجل نادر بحالات الاقتتال الدامي فيما بينها البين.
لكن أحد العلماء باغت الجميع برأيه الذي زاد الأمور تعقيدًا، حين قال إنه لو كان هو شخصيًا أسدًا، لتعهد بتربية الفهود حواليه ورعايتها كما لو كانت حيواناته الأليفة المحببة!
فالفهود، لأسباب تتعلق بتصميم أجسادها وصغر حجم رؤوسها وانسيابية حركتها، هي الأسرع والأمهر في قدرتها على الصيد، وكثيرًا ما تطفلت الأسود على فرائس الفهود وأكلتها عنوةً، مستفيدةً من هذا القناص البري نادر المهارات الذي يمكنه أن يصيد بكل براعة.
ومن ثم وبصورة براجماتية، فإن مصلحة الأسود تكمن في قدرتها على توظيف الفهود لصالحها الشخصي، لا قتلها.
التطاحن بين الحيوانات المفترسة أو بين الثدييات عمومًا في الغابة، غرضه فرض الهيمنة أو تغليب المصلحة أو ما سواه من أمور السياسة كفن لتقسيم الموارد والاستفادة منها.
حتى في حالات التزواج حين يتصارع الذكور على الإناث، لا يقتلون بعضهم البعض.
فتنين كومودو ذو العضة السامة، لا يقتل غريمه الذكر، بل يناوشه ساعات وساعات إلى أن يظفر أحدهما بالأنثى، وهو شأن بقية المتصارعين على الزواج حتى بين أنواع الأفاعي السامة، فالأنواع تدرك غريزيا أنها تتصارع لأجل البقاء لا لأجل التناحر والفناء.
ومن هنا يجييء ذكاء الافتراس وقواعد التوحش التي تحكم الغابة، وربما لا تتوفر في أحيان كثيرة لدى البشر.
(2)
النظام السياسي المصري الحالي، يتفقر لهذه الهندسة المدهشة التي تضبط قواعد الافتراس والصراع والتي تتدبر المعاهدات والتحالفات بين الأطراف جميعا، بحيث يبقى النظام ويستمر مثلما تستمر الغابات وتصمد رغم نزيف الدماء والنهش اليومي فيها.
فلابد من أسود تبسط هيمنتها وتتسيد المشهد، ولابد من ضباع ترضى بأكل الجيف وما يتبقى من الأسود، بل وأحيانا قد تضطر لسرقة الفرائس منها.
ولابد من فهود تصطاد، فتسرق منها الأسود –التي ليست بالضرورة هي الأفضل في مهاراتها-، ولابد من أسود تضطر للسرقة أحيانا من الضباع نفسها التي ينظر عادة لها بازدراء بالغ كحيوانات وضيعة وغشومة.
لكن الأسود تسرق الضباع ليلًا، وكأنها تحفظ مهابتها وقيمتها وماء وجهها.
ولابد من الأفيال، التي لا يفترس حيوان آخر في وجودها، لتمثل عنصر السلام وتوازن الردع.
(3)
فضائل الغابة في تقنين قواعد العدوان والاستفادة المشتركة بين الانواع جميعًا، تغيب كلية عن هذا السيرك الذي نحياه.
ففي أيام مبارك (ومن سوء الطالع أن تصبح هذه الحقبة البليدة محل استشهاد ومحاججة)، كانت الأنواع تتعايش سويًا في جسم الدولة، وكان النظام يرعى وجودها.
فهناك شتاموه وأفاكوه الرخصاء المأجورون، وهناك واجهاته الأنيقة المحترمة، لديه بلطجية وأكاديميون، لديه سياسيون متخثرون وتكنوقراط وشعبويون.
لديه زكريا عزمي الذي وقف يهدر في مجلس الشعب «الفساد وصل في المحليات للركب»، وهو يشغل حينئذ منصب رئيس ديوان رئيس الجمهورية، ولديه كمال الشاذلي الذي كان يهندس قسمة الغنائم بين ضباع النظام في مجلس الشعب كرجل عليم ببواطن الغابات ونوازع النفوس فيها، ولديه أسامة الباز العبقري الألمعي ومفيد شهاب القانوني البارع، ولديه حسام بدراوي الإصلاحي المهذب (هكذا شاعت النعوت ووافقتها الأمارات) وآخرون وآخرون من كافة الأطياف والأنواع.
هناك مفترسون وهناك مقتاتون على بواقي الافتراس.. وهناك أيضًا من يتدخلون لوقف الافتراس والفرم، وهناك الذين يتدبرون أن تمضي أوركسترا الغابة بتناغم يسمح للجميع بالعيش، بدءًا من الديدان وصولًا للأسود وبقية كائنات السلم الغذائي الأعلى.
(4)
في مشاهد الافتراس التي تجري بين من جمعتهم يومًا صورة واحدة، لم يتأت للتاريخ المصري الحديث أن تضم أراذل الناس وسفهائهم مثلما ضمت هذه الصورة، عظةٌ ونذير.
فحين طغى عدد الضباع على ما سواها من حصة التكوين، كان طبيعيًا ألا يكون للمشهد العام فهوده القناصة ولا أسوده ذات الهيبة والوقار ولا حتى أفياله التي تردع وتقر السلام.
لذلك جاء المشهد هجينًا قبيحًا غير طبيعي حتى على نسخة «الظلم» المصري المعتادة، بآلياتها المتعارف عليها وبقواعدها المستقرة منذ عقود.
ومن ثم، فإن من «هندس» هذا التركيب المشوه، يبدو للمتأمل الآن، جاهلًا بشكل الطبيعة وبقواعدها، لا بالسياسة فحسب. وعلى ذلك فعليه أن يتحمل جماعات الضباع وهي تلتفت له هو بعد طردها من المشهد شيئًا فشيئا.
(5)
لعله من المثير للأسى، أن يتأمل المرء مصر بعد ثورتين وبعد ماء كثيرة وأحلام مهدرة، ليراها كما كانت.. غابة.
ولعل أقبح ما في الأمر، أن غابة اليوم لا تراعي حتى قواعد الغابات العريقة، بل هي غابة جهولة تقضي بنفسها على نفسها، ليتركوا لنا حين ينزاحون عنها، بقايا محطمة من كل شيء.
فهل للمهندس البيولوجي أن يجلس قليلًا أمام وثائقيات الغابة على «ناشيونال جيوغرافيك» و«ديسكفري» لعله يستفيد، فيضبط شيئا من المعوج؟ أم سينتظر حتى تأكله الضباع هو الآخر بينما نتابع نحن دراما اللحظات الأخيرة بصمت ممزوج بتشف حزين؟