الفريسة التى هزمت الصياد 3 : بريجيت باردو: كرهت صورتى فى المرآة بسبب شقيقتى وحاولت الانتحار بسبب «فازة»

كتب: سلمي الحملاوي الجمعة 08-10-2010 15:04

فى الحلقتين السابقتين رسمنا صورة بانورامية، للظروف التى نشأت فيها بريجيت باردو، وأدت إلى سطوع نجمها فى التمثيل والغناء والرقص، لتصبح النجمة الأكثر شهرة فى تاريخ فرنسا، بدأت «بريجيت» تحكى عن الأيام الأولى فى طفولتها، وتوقفنا عند بداية خروجها من القفص الذهبى للطفولة، واصطدامها بمشاكل وأزمات لم تستطع أن تنساها طوال سنوات العمر، وفى هذه الحلقة تواصل الحديث عن عقد الطفولة، وذكريات الرعب الباقية من أجواء الحرب وندرة الطعام، والهلع اليومى بسبب القصف الجوى الألمانى وبداية تعاطفها مع الحيوانات.

فى سنواتها الأولى خرجت بريجيت من «حضانتها العائلية» مرات قليلة، أكثرها تأثيرا فى نفسها عندما أخذها والدها لزيارة منزل والده (الجد شارل)، وهناك اصطدمت بريجيت بعالم مختلف، وشعرت بمسافة كبيرة بين عالم الكبار والصغار، وفى المساء عندما طلبوا منها أن تنام لم تستطع، وشعرت بالخوف، وعرفت لأول مرة طعم الأرق، ربما كان لهذا علاقة بالصورة التى تذكرتها جيداً خلال هذه الزيارة لشقيقتها «ميجانو» الصغيرة وهى ترضع فى بزازتها والكل يحيطها بالاهتمام ووجدت بريجيت نفسها تمص إبهامها لأول مرة، وتتقلب فى السرير كثيرا، وتشد الغطاء يميناً ويساراً، وعرفت طعم الكوابيس للمرة الأولى فى حياتها.

وفى زيارة أخرى ذهبت الطفلة إلى منزل جدتها الثالثة «تابومبون» أخت جدتها «مامى»، كانت أرملة توفى زوجها فى الحرب العالمية الأولى، تاركاً لها ابناً وحيداً يدرس الطب اسمه جين، كان منزلها يبدو كالكهف المظلم الرطب، وبدأت الهواجس تنتاب الطفلة وأدركها شعور بالخوف من أن ذئباً سيأتى ويفترسها، حتى ظهر «جين» وأمسكها من يديها ودار بها بسرعة وكأنها تركب أرجوحة أسطورية، وفى طريق العودة بالمترو كانت مثل «أليس» فى بلاد العجائب وهى تشاهد باب المترو يغلق ويفتح أوتوماتيكيا، وكأنه باب مغارة على بابا.

لم تكن أحاسيس الطفلة بعيدة عن الواقع، فقد كان الذئب النازى يقطع الطريق مسرعا لالتهام باريس.

تقول «بريجيت»: عندما عدت إلى بيتنا بصحبة جان ابن جدتى «تابومبون»، شعرت بقلق كل من فى المنزل، ماما، بابا، بوم، مامى... كنا عام 1939 عشية إعلان الحرب العالمية، وجيوش هتلر اكتسحت بولندا، وشاهدت أمى طوال أيام وهى تخزن كميات كبيرة من الطعام والمؤن، وبكرات الصوف مختلفة الألوان وعليها حبات النفتالين، وتحول المنزل إلى مخزن كبير.

لم تكن «بريجيت» تفهم شيئا عن الحرب، كانت تلعب بالدب «موردوش» الذى أهدته لها أمها أثناء إجرائها جراحة الزائدة الدودية بالمستشفى، ولم تكن تفهم ما تفعله أمها فى ذلك الوقت، فذهبت إليها وسألتها، وتحكى بريجيت عن هذه الذكرى فتقول: حاولت أمى أن تشرح لى ببساطة معنى الحرب، فقالت: تخيلى أن شانتال صديقتك حاولت أن تأخذ هذا الدب «موردوش» بالقوة رغما عنك، فماذا ستفعلين؟، وعندما سكت ولم أرد، أكملت أمى: لابد أن تدافعى عن لعبتك، وربما تضربينها لتستعيدى «موردوش»، وبالنسبة للكبار والدول فإن هذا الشجار يتحول إلى حرب، ونحن الآن نستعد للحرب لأن هناك من يريد أن يأخذ بيتنا وباريس كلها بالقوة.

أضافت «بريجيت»: شعرت بحزن وخوف لم أعرف لهما سبباً فى تلك السن، وبعد أيام من تخزين الأشياء وتعبئتها، تركنا باريس وذهبنا إلى مدينة دينار الساحلية على بعد عدة كيلومترات من باريس وهى منطقة هادئة وآمنة. وكان جدى «بوم» ضابط احتياط، وجدتى «تابومبون» استمرت فى عملها كممرضة، و«جان» ابنها أصبح طبيبا فى الجيش، وأبى انضم إلى الفيلق 155 مشاة مع قوات ديجول، أما فقد أصبحت هى المسؤولة عن كل شىء، فى شقة دينار، وكانت شقة صعيرة مكونة من حجرتين فقط، لذلك تركنا الممرضة «بيارات» ولم نأخذها معنا، وشعرت براحة كبيرة لاختفائها لأننى كنت أتمنى دائما أن يرميها أبى فى سلة القمامة.

وتابعت: كنت فى الخامسة من عمرى لذلك قررت أمى أن تسرع بتعليمى القراءة، لكننى كنت أنظر لكتاب «مغامرات الفيل بابار» فيبدو أمامى كأنه طلاسم يستحيل فهمها، وطبعا لم تنجح أمى فى تعليمى شيئا، لأننى لم أفهم شيئا، ولأنها لم تكن تتفرغ لى وتركز معى، لأن أختى ميجانو بدأت تتعلم المشى وكانت شقاوتها خطرة جدا فى المسكن الصغير، وكان على أمى أن تراقبها ولا تغفو عنها. وبعد فترة عاد أبى من الجبهة ليعيد تشغيل المصنع،

وقال إن فرنسا تحتاج للإنتاج قدر حاجتها للجيش، وتركنا دينار وعدنا لباريس، ولكن ليس إلى منزلنا الذى تركناه، لكن أبى استأجر شقة صغيرة من حجرتين فقط، كنا فى الشتاء ولم يكن لدينا إلا مدفأة واحدة، ومازلت حتى الآن أتذكر صوت صفارات الإنذار وهى تدوى ليلا، حتى إننا كنا ننام بملابسنا كاملة، لنستطيع أن ننزل للمخبأ فى أى لحظة، لأن الصفارات كان يتلوها قصف، وأزيز طائرات، وكان هذ الدوى يهز سريرى ويحطم زجاج النوافذ وأصابنى برعب لم أتخلص منه أبدا.

أصرت أمى على التحاقى بالمدرسة فى عز الشتاء.. الكلام لايزال لـ«بريجيت»، وأضافت: اختارت أمى لى مدرسة «بونيه دو مونفيل»، لكن البرد القارس أصابنى بحمى شديدة ألزمتنى الفراش لمدة 40 يوما، كانت خلالها أمى تجلس بجوارى فى الفراش وتقرأ لى قصصا ممتعة، وتسقينى اللبن بالفانيليا،

ويبدو أن قصص أمى واللبن بالفانيليا، أسرعا بشفائى، وكانت لأيام المرض ذكريات جميلة لمست فيها حنان واهتمام أمى، ولم يكن هناك إلا ذكرى سيئة واحدة، فقد تلقت أمى نصيحة من صديقة لها أن تطعمنى «مخ حمل»، مؤكدة أن ذلك سيعجل بشفائى، وتعبت أمى حتى وجدت مخ الحمل الصغير واشترته، وطهته، وقدمته لى، لم يعجبنى شكله، ولزوجته، وطعمه، فرفضت تناوله،

فى حين التهمت ميجانو طبقها واعتبرت أمى ذلك تحدياً لأوامرها، وعدم تقدير منى لمجهودها ورغبتها فى شفائى السريع، فثارت وأصرت أن آكله عن آخره، ولما ترددت، فتحت فمى بيدها وحشرت فيه المخ بالقوة، وظللت أعانى طوال الليل، الغثيان والقىء، ولاتزال هذه الذكرى تثير فى نفسى الألم، ومنظر المخ يقلب معدتى، ولا أدرى لماذا يصر الآباء على إطعام أولادهم مايكرهونه!؟

استطردت «بريجيت»: بعد شفائى عدت للمدرسة، وكانت معى صديقتى الوحيدة شانتال، ولم تكن هناك وسيلة للتسلية سوى الفونوجراف، حيث نضع أسطوانات الموسيقى ونرقص، وعندما لاحظت أمى تعلقى بالرقص، قررت أن تلحقنى بمدرسة باليه مرة فى الأسبوع. وحاكت لى جدتى ثوبا من الحرير الوردى لأذهب به إلى مدرسة الباليه، كان فى الأصل قميص نوم لأمى، لم يكن توفيرا منها ولكن لم يكن هناك قماش حرير فى فترة الحرب، واشترت لى أمى حذاء للرقص، كان مسيو ريكو هو معلمى الأول فى الباليه،

كنت أستوعب تعليماته بسرعة، على عكس استيعابى دروس الحساب والإملاء، وفى سن السابعة حصلت على الجائزة الأولى فى الرقص، وشهادة تقدير. ولم تكن أمى راضية عن الشقة الصغيرة، التى انتقلنا إليها، وأخيرا وجدنا شقة فسيحة مكونة من ثمانى حجرات فى «أفينو دو لابوردينيه» وهو حى راقى فى باريس، وكان لدينا فى المطبخ فرن كبير بالفحم، وشرفات طويلة تطل عليها كل غرف المنزل، وهذه هى الشقة التى عشت فيها كل سنين طفولتى وصباى.

وحول النزهات قالت «بريجيت»: لم تكن هناك أماكن للنزهة أثناء الحرب، لذلك كنا نقضى الإجازات فى أملاك جدتى «باردو» فى لوفيسيان، كانت مزرعة صغيرة، ليس بها مياه فى الصنابير، فى كل حجرة كان هناك إناء ودورق بدلا من الصنابير والأحواض، كانت هناك حظيرة صغيرة مسورة حيث تربى جدتى الأرانب.. كان الغذاء شحيحا أثناء الحرب، لذلك كانت أسرتى تتغذى على الأرانب المسكينة، تعلقت بأرنب أسود منها سميته «نوار».

وفى يوم اختفى «نوار» كما اختفى من قبل إخوته، بكيت على مائدة السفرة حين عرفت أن «نوار» هو وجبتنا ورفضت أن آكل لحمه على الغداء، بكائى ذهب بشهيتهم فلم يتناول أحد منهم قطعة من لحمه، وانتهى به الحال لصندوق القمامة!! ومن يومها لا أذوق لحم الأرانب وأتعاطف مع الحيوانات. وعرفت أن الحرب معناها الفقدان والموت حين بكت «شانتال» بحرقة والدها الذى مات فى الحرب، كانت حزينة وفى نفس الوقت فخورة جدا به،

مما جعلنى أشعر بالحرج لان أبى لم يمت مثله، أفضيت بهذه المشاعر المخجلة لأمى، فأخذت يدى بين يديها بحنان وقالت: أنت محظوظة أن والدك على قيد الحياة فـ«شانتال» لم يعد لديها إلا أمها، وعلينا أن نعتنى بها»، شعرت أننى محظوظة واختلفت نظرتى لأبى، وعاهدت «شانتال» أن نتشارك فى أبى ونصبح أخوات.

وعن والدها تحكى: أبى كان وطنيا مخلصا لم يتعامل مع الألمان طوال حياته، رغم معرفته بلغتهم فأسرة باردو أصلها من لورين، وكانوا دائما يعتبرون الألمان أعداءهم منذ الحرب العالمية الأولى، ولم يكن يوافق على عملهم فى مصانعه، كانت علاقته بعماله علاقة ود ومحبة، فى نهاية كل شهر كان يقيم لهم حفل سمر،

كان يحب هذه الأجواء المرحة التى يجدها مناسبة لإلقاء الشعر الذى يكتبه، كانت هذه الحفلات تكلفه الكثير، خاصة فى فترة الحرب الصعبة، بعدها كان يبتئس فترة ولكنه يعود لتكرارها، كانت تدخل البهجة على قلبه. وبعد انتقالنا لشقتنا الجديدة، غيرت المدرسة، وكذلك فصول الرقص. والتحقت بمدرسة منهجها يحتاج لثلاث مرات أسبوعيا فقط، مما سمح لى بالذهاب للباليه ثلاث مرات أسبوعيا.

وتابعت «بريجيت»: كانت شقتنا فسيحة ولذلك لم نكن نستعمل سوى ثلاث حجرات منها حتى نوفر نفقات التدفئة، فالفحم كان يوزع بالبطاقات، ولم يكن يكفينا، لذلك كنا نذهب لنحتطب مع أبى فى الغابة بعد صلاة الأحد، وفى هذه الأيام أيضا كان الحصول على الطعام أمراً صعباً، وكان يستلزم الوقوف فى الطابور لساعات طويلة، وكانت دادا ماريا المسكينة تستيقظ فى الثالثة صباحا لتكون فى مقدمة الطابور حتى تضمن لنا الحصول على طعام، لقد كانت الظروف صعبة والأحوال سيئة، وكنا نادراً ما نذهب للسينما،

ربما مرتين أو ثلاث فقط فى العام، ولم يكن هناك تليفزيون، وكان المسرح ممنوعا علينا، حيث يرتاده الكبار فقط، يخرج أبى مع أمى ويتركانى أنا وميجانو مع الخادمة، ونظل نتحدث حتى يغلبنا النوم، ولم تكن هناك متعة إلا فى بعض الأمسيات التى لايخرج فيها والداى ولا يستقبلان أحدا، فكان أبى يقرأ لنا بعض القصص الجميلة، ويغير نبرة صوته مع كل شخصية،

ويبتكر قصصا مسلية من وحى خياله، لكننى كلما فكرت فى طفولتى أشعر أنها لم تكن سعيدة، بالرغم من أننى ولدت فى عائلة لديها كل المقومات التى يحتاجها الأطفال، فأنا لم أعرف البونبون أو الفطائر، وكنت محرومة من هذه المأكولات، التى يتعلق بها كل الأطفال، لأن أمى كانت تكتفى بالبسكوت بالفيتامين، وفى شهر مايو عام 1943 حدثت أكبر خيبة أمل حطمت طفولتى وأحلامى البريئة.

أنا غبية وقبيحة وحولاء

أبواى كانا دائماً يعقدان مقارنة بينى وبين «ميجانو»، كانت «ميجانو» حلوة فى طفولتها، أما أنا فكنت أعانى من حول فى العينين وأستعين بنظارة طبية لإصلاح هذا العيب، وكذلك جهاز لتقويم الأسنان التى تشوهت بسبب مصى لأصابعى. أما «ميجانو» فكانت تلميذة مجتهدة ومتفوقة وكنت أنا متعثرة.

كنت أسمع أمى تقول لصديقاتها أمامى: «الحمد لله أن عندى ميجانو، فهى مصدر فخرى وسعادتى، أما المسكينة بريجيت فهى دون المستوى فى الجمال والذكاء».

كلام أمى كان يؤلمنى ويجعلنى أظن أننى طفلة متبناة ولست ابنتها، وعندما كنت أنظر لنفسى فى المرآة كنت أكره صورتى، كان عزائى الوحيد فى طفولتى هو دروس الباليه، فكنت أركز فيه وأشعر وأنا أرقص كأننى فراشة منطلقة وجميلة .

وكان جدى «بوم» هو الوحيد الذى كنت أئتمنه على أسرارى، وأبوح له بتعاستى ورغبتى فى الموت، فكان يحتضننى بحنان بالغ ويمسح على شعرى وهو يقول لى: «أنت ياصغيرتى بهجة حياتى وحياة جدتك».

كلماته كانت تطمئننى وتشعرنى أن هناك من يحبنى.. كم كنت أحبك ياجدى، كان مثقفا يقرأ اللاتينية، مغرما بكتب التاريخ والجغرافيا، ويساعدنى فى دراستى، لكننى من داخلى كنت أرفض هذا التعليم النمطى، لذلك ظللت ضعيفة المستوى فى المدرسة

أمى.. قسوة الأرستقراطية

ظلت «شانتال» صديقتى الوحيدة، لأن أمى كانت تعرف عائلتها، وراضية عن صداقتى لها، أما زملاء المدرسة الآخرون فكانت أمى تحذرنى منهم، وتسأل عن عمل آبائهم، حتى لا يكونوا دون المستوى، وكانت تكرر أمامى دائما تحذيراتها الطبقية، ولعل هذا ما جعلنى بعد ذلك أتمرد وأكسر هذه التقاليد المتزمتة!

كانت أمى حريصة على تحفها القيمة، كانت شديدة الحرص علينا بنفس الطريقة، تحاول أن تحمينا من الأمراض، فتأمرنا بارتداء قمصان وبنطلونات صوف صيفا وشتاء، وكانت تكره النوافذ المفتوحة، ففى الشتاء تقول إن ذلك إسراف فى التدفئة،

وفى الصيف كانت تخاف أن يسطو على منزلنا اللصوص، وكانت الخادمة تغلق النوافذ من الساعة السادسة والنصف مساء، فيصبح المنزل أشبه بالقبر، وكنت أعانى من ذلك، خاصة فى الصيف، وتحول الأمر عندى لنوع من «فوبيا» الأماكن والنوافذ المغلقة، وهو ماجعلنى دائما أرغب فى الهرب إلى الشواطئ والأماكن المفتوحة.

كان من عادات أمى أيضا أن تغلق كل شىء بالمفاتيح حتى (كمود) حجرة نومها، كانت تنسى أين وضعت المفاتيح.. قضينا طفولتنا فى البحث لها عن مفاتيحها الضائعة، وكانت حريصة لحد الهوس بترتيب الأسرة، فلو وجدت كسرة فى غطاء السرير، يستدعى ذلك العقاب، وكانت أمى حازمة وشديدة فى عقابها، ومازلت أتذكر اليوم الذى تركتنا فيه أنا وميجانو مع الخادمة..

كنا نلعب لعبة الهنود الحمر، ونتخيل الخادمة العدو. ونختبئ منها تحت منضدة بمفرش ساتان، وأثناء لعبنا، تعثرنا فى المفرش، وانزلقت من على المنضدة «فازة شينواه» قيمة، كانت أمى تفتخر بها كثيراً، وتحطمت تماماً، خافت الخادمة من عقاب أمى لها وضربتنا لكننا كنا أكثر خوفا من عقاب والدينا،

فاختبأنا فى دولاب المطبخ، وعندما عاد أبى وعرف ماحدث، غضب بشدة وضرب كل واحدة منا عشرين عصا على أردافها، أما أمى فكان عقابها أشد فقالت لنا بطريقتها الصارمة الجادة: «من الآن لستما بناتى، بل غرباء عنى وعليكما أن تناديانى بحضرتك وليس بأنت».

كنا صغاراً، أنا فى السابعة وميجانو فى الرابعة، ولم يكن الخطأ متعمدا.. مجرد شقاوة أطفال، لذلك كان لطريقة أمى وأبى فى العقاب تأثير سيئ فى نفسى، وشعرت بالعزلة والمهانة وانكسار الإرادة، وتمنيت فى هذه السن أن أموت وأتخلص من حياتى،

وهذا الشعور مازال يلازمنى حتى الآن، وتسبب فى إقدامى على الانتحار أكثر من مرة. وبعد ذلك بسنوات وتحديدا فى نوفمبر 1975 عندما مات أبى، كانت أمى ضعيفة، طلبت منى أمى أن أرفع التكليف وأناديها أنت، لكنى لم أفعل.. كان الوقت متأخرا، وشىء ما انكسر داخلى لم أستطع إصلاحه.

لورين.. سر كراهية أبى للألمان

عائلة أبى نشأت فى إقليم لورين على حدود بلجيكا ولوكسمبورج وألمانيا، مع فرنسا وهذا الموقع الاستراتيجى، جعل الإقليم عرضة للغزوات والحروب والاضطرابات، وانتهى الأمر باقتسامه طبقا لاتفاقية فرانكفورت بين ألمانيا وفرنسا بعد حرب البلدين عام 1871، وبعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى عاد لورين إلى فرنسا المنتصرة، طبقا لاتفاقية فرساى الموقعة عام 1919.