اعترافات مدمن سلطة

جمال الجمل الأربعاء 02-03-2016 23:28

(1)

لما التقى الدكتور بطرس غالي برئيس الحكومة المصرية (من 1999: 2004) كان يريد أن يطلب منه شيئاً محدداً، لكن عاطف عبيد لم يفهم، ليس بسبب شيخوخته وإرهاقه لدرجة النعاس أثناء المقابلة (كما دون غالي في مذكراته)، ولكن لأن الدبلوماسي العجوز كان يلمح ولا يصرح، منتظرا تجاوب رئيس الحكومة في النقاش، كان غالي يريد أن يعود وزيراً، حتى لو بلا حقيبة، كما قضى مدة وزارته الطويلة السابقة وزيرا للدولة، لذلك تحدث عن «صورة مصر» السيئة جداً في العالم، وقال إن صورة مصر والعرب عموما تحتاج إلى جهود كبيرة لتصحيحها، لكن عبيد غلبه النعاس ولم يواصل الحوار، فرفع غالي صوته: يجب أن نبادر إلى هجوم معاكس. رفع عبيد حاجبه وقطب جبينه محاولا فتح عينيه، لكنه لم ينتقد أداء الخارجية ولا الإعلام، ولم يتجاوب مع حماس الدكتور بطرس الذي ابتعد عن نقد الوزراء، وأضاف موضحاً فكرته: المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية يمكنها أن تساعدنا في تصحيح هذه الصورة لدى أمريكا وأوروبا، فلماذا لا نفعل مثل المغرب وتونس وننشئ وزارة لحقوق الإنسان؟!

يزم عبيد شفتيه، ويقول لغالي: كلام معقول..!، لكنه لايزيد عن ذلك، كأنه يريد أن ينهى المقابلة بلا جدال ليكمل قيلولته..! لكن غالى يستكمل حديثه بوضوح أكثر: أتعشم عندما تقابل الرئيس أن تكلمه في ذلك.

(2)

يقدم غالي درسا للمبتدئين في السعي نحو السلطة فيقول: حرصت على ألا أتحدث مع رئيس الحكومة في الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر، فأنا أعرف مسبقا بما سيجيبنى.. سيشكو بشدة من انتقادات الصحافة التي لا ترحمه.

وبالفعل اشتكى عبيد من الصحافة وأحمال العمل الشاق، في إحدى العبارات التي نطق بها بين إغفاءة وأخرى، فانتهز غالي الفرصة وقال له مجاملاً: أنا أعرف من خلال خبرتى أننا نستطيع مع الوقت (لحسن الحظ) أن نحتمى وراء درع واقِية.. ويدون غالي في مذكراته هذه الفقرة المهمة: كنت أحاول أن أشد من عزيمته مذكرا إياه بالهجوم العنيف الذي تعرضت له من العرب أثناء مفاوضات كامب ديفيد، ومن الأمريكيين في السنة الأخيرة لي بالأمم المتحدة، ويضيف ملاجظة مهمة تكشف خبايا سعيه للقاء عبيد: ما يعيبونه على اليوم هو عمرى: «القائد تقدم كثيرا في السن».. إن الانتقاد والنميمة هما الضريبة اليومية التي يجب أن ندفعها للمرور إلى «الباب العالى» الذي هو «السلطة».

(3)

نحن هنا أمام رجل يعرف بوضوح قيمة الضريبة التي يجب أن يدفعها للتقرب من معشوقته اللعوب (السلطة)، فقد تذوق ذلك الطعم الساحر ذات يوم من منتصف السبعينات عندما أبلغه صديقه المقرب الدكتور مجدي وهبة أستاذ الأدب الإنجليزي أنه سيرشح اسمه كمسؤول قبطي كبير، بناء على طلب تلميذته السيدة جيهان السادات، منذ ذلك اليوم لا يستطيع غالي أن يعيش بعيداً عن أحضان السلطة... حلمه العائلي العظيم، وهذا الشغف بالسلطة يأخذنا إلى يوم 20 أكتوبر 2002 حيث تم اختيار الرئيس السنغالي السابق عبده ضيوف في منصب الأمين العام الجديد للفرانكفونية بعد انتهاء فترة غالي، الذي يقتضي البروتوكول أن يلقى كلمة في الحفل الذي أقيم في بيروت لإعلان اسم الأمين الجديد، يومها لم يكن يوما جيدا لغالي فقد نادى رئيس الجلسة على اسمه ليقول كلمته، لكنه لم يكن مستعداً ولم يهتم بتحضير كلمة، وقد وصف ذلك الموقف في مذكرته قائلاً: ارتجلت بضع كلمات، انتهت بتصفيق حار لتحيتي، لكن ذهنى كان في مكان آخر.. كنت أسمع في هذه اللحظة تصفيق الجمعية العامة عندما كنت أسلم مهامى إلى كوفى أنان.. أذكر الانفعال الشديد الذي شعرت به في ذلك اليوم من سنة 1996، وأحس بطعم الدموع التي كنت أحبسها داخلي بصعوبة كبيرة.

(4)

يحاول غالى أن يتعرف على أوجه الشبه بين الموقفين فلا يجد غير مشاعر تسليم المنصب والخروج من السلطة.. يقول: لا شىء اليوم في الحفل يشبه حفل الأمم المتحدة، فلماذا شعرت بنفس الغصة؟.. هل هو العمر؟، أم التعب؟.. لا أعرف، ولا أستطيع أن أفكر.! قبل عام آخر وفى نوفمبر 2000 كان غالى يحضر تسليم ديفيد روكفلر وسام جوقة الشرف في باريس بحضور السفير الأمريكى فليكس روهاتيم الذي قال لغالى بحسرة، معرباً عن خوفه من الصلع: لو كان لى فقط مثل شعرك؟! فيقول غالى سراً: بما أننا نتكلم عن الحسرة، أقول في نفسى: لو أننى أملك 1% من ثروة روكفلر وواحد على عشرة من السلطة السياسية والدبلوماسية التي يملكها روهاتيم، فمن المؤكد أننى لن أشعر أبدا بالحسرة.!.. اللطيف أن الرجل الذي يعيش بانتظار «بدر البدور»، لا يسرق جملا ولا يعشق قمرا، إنه يريد 1% فقط من الجمل واحد على عشرة من سلطات سفير أمريكى، أي 10% من «هلال» وليس من بدر مكتمل.!

(5)

في حوار له مع التليفزيون البرتغالى أداره الرئيس ماريو سواريس، قال غالي بكل صراحة: لا أعتقد أن بوسعى ترك السلطة، لأنها أصبحت بالنسبة إلى نوعاً من المخدر، وفى حوار بينه وبين رئيس قبرص الأسبق جورج فاسيليو علق على لقب «الأسبق» بتشاؤم كبير، وقال لفاسيليو: الواقع أن المرء حين يكون خارج السلطة، فهو عادة ما ينتقد الطريقة التي يعمل بها من جاء بعده إلى السلطة، ربما كنوع من التعويض والإحساس بالذات.. يقال إن السلطة تنهك المرء، لكن فقدان السلطة يكون أكثر إنهاكاً.. يعثر غالى على مقولة مترسبة في أعماقه، فيطلقها بمناسبة حواره مع فاسيليو، ثم يتدارك الأمر قائلاً: لكن هذه الحالة (في الواقع) لا تنطبق على الرئيس فاسيليو، الذي أراه مفعما بالحيوية وفياضا بالمشاريع، لكنه تنطبق أكثر على حالة الرئيس الرومانى الأسبق إيون إلياسكو المتخوف دائماً من سوء الأوضاع في بلاده.!.. على كل حال، الابتعاد عن السلطة لا يحمل على التفاؤل، فمن المعروف أنه حين تكون المقاليد بيدنا، يكون «الأدرينالين» مرتفعا، ونميل إلى رؤية النصف الملئ من الكوب، وإلى تجاهل المشاكل «الصغيرة»، بما أننا نهتم بمتابعة الأهداف الكبرى، وإذا حدث وقام صديق مخلص بتنبيهنا إلى مشاكل في الواقع، فإن المعاونين المنافقين سرعان ما يعملون على محو هذا الانطباع، لأن سبب وجودهم يكمن في المحافظة على معنوياتك في أعلى مستوى.!

(6)

يتذكر غالى نصيحة قدمها له الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، بإهمال المقالات التي تهاجمه، وضرورة التأكيد على معاونيه بعدم عرضها عليه أو إخباره بها، ويرى أن اهتمام غالي بالانتقادات التي توجه له، هو العامل الأكبر الذي ساعد في عدم انتخابه لمرة ثانية بالأمم المتحدة.! نصيحة كارتر لم تعجب غالي وسخر منها في سره، بينما أبدى إعجابه بملاحظة رئيسة التشريفيات في البيت الأبيض، أيام ريجان، السيدة سلمى روزفلت، التي سألته: لماذا لم تقدم لي بلادك وساماً كما فعلت مع السفير الذي جاء بعدي جوزيف ريد؟، وأضافت روزفلت حكمة أشاد بها غالي قالت فيها: إن أكثر فترة نحتاج فيها إلى نيل الأوسمة هي بالضبط تلك التي نكون فيها خارج السلطة.

(7)

«إن هناك شيئا مأساويا في خسارة السلطة».. هكذا قال غالى لـ«جورباتشوف» أثناء دعوته على الغداء في الأمم المتحدة مضيفا: «وأتخيل الصعوبات التي مررت بها وأنت تحكى عن هذه الأوقات العصيبة»، وعندما يقول له جورباتشوف: «اخترت أن أكون متحفظا، وتحاشيت أن أبدى مشاعرى»، يواسيه غالى قائلا: لقد تسنى لى مرات عديدة أن أعايش يأس الذين يخسرون السلطة فجأة، بعضهم يلجأ للتبجح والمكابرة فيتكلمون عن مرحلة جديدة، وعن عودة قريبة للسلطة، لكن معظمهم لا يستطيع إخفاء «خيبته» لفقدان مسؤولياته وخوفه من الفراغ، وقلقه من أن ينهى أيامه في غياهب النسيان الذي رمته فيه الأقدار.

ونظن أن غالى الذي أعلن عن «خيبته» لفظا وشعورا في نهاية كتابه كان أكثر احتياجا في ذلك الوقت إلى هذه المواساة من جورباتشوف، ونظن أيضا أن هذه العقلية وهذه التركيبة النفسية هي التي تجعل مسؤولينا يتمسكون بكرسى السلطة، وكأن بينهما حبلا سريا.. إذا ما انقطع تنقطع الحياة.

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com