أخيراً وجدت شيئاً مبهجاً أبدأ به مقالى وسط ضجيج من المعارك والمشاحنات والملاسنات والكلام الفارغ، واللسان الطويل والهبوط الحاد في مستوى الحوار في البرلمان وعلى الفضائيات والمواقع الإلكترونية.. ضجيج وصراخ و«أحذية» ومناخ كئيب غطى على أحداث أهم وأفضل وأرقى لبناء هذه الدولة، مثل إلقاء الرئيس السيسى خطابا أمام البرلمان اليابانى، وهو حدث فيه تقدير واحترام لهذا البلد الذي ندهسه نحن أهله بمعارك غوغائية وهمجية وقضايا هامشية أقل ما يمكن وصفها بها أنها تافهة تسقط من الذاكرة بمجرد تحويل مؤشر «الريسيفر»، وهى قضايا نتفنن في اختراعها على مدار الساعة، وبتنا مربوطين في ساقية متابعة نماذج لأحط ما فينا من أخلاق وأدنى ما بيننا من سلوكيات، وصارت هذه النماذج تخرج علينا بالصوت والصورة والحركة لتتباهى بحفظها قاموس البذاءات عن ظهر قلب.
ما الذي أبهجنى إذن وسط تلال سد النفس هذه؟ في حديث تليفونى مع صديق خطفه العمل في الخليج قبل عشر سنوات وأدمن الحياة هناك ويأتى كل عام زيارة، فيرثى لحالنا ويعود، حيث إنهم في الوسط الكروى بالخليج متعجبون ومندهشون كيف وافق الهولندى «مارتن يول» على العمل في مصر؟ فهو اسم كبير في أوروبا ولم يسقط من قائمة المدربين المفضلين للأندية الكبيرة، فكيف أغراه الأهلى وأقنعه بتدريب فريق الكرة؟ خاصة أنه مهما وصل ثراء الأندية المصرية، فإنها لا يمكن أن تقف أمام إغراءات الأندية الكبيرة في السعودية والإمارات وقطر، ناهيك عن أن المدربين الكبار في أوروبا يبحثون عن الأمان والطمأنينة، فكيف لبلد مثل مصر تمت مقاطعته سياحياً من دول العالم أجمع يوافق المدرب الهولندى على الحضور إليه، مهما كان الراتب الذي سيتقاضاه؟ وللحق، فإنه على قدر سعادتى وابتهاجى لما سمعته ولما قرأته من متابعات في المواقع الكروية العالمية، فإن الإجابة عن هذه الأسئلة تظل أمرا مهما حتى نفهم؟
ومن قبيل الاجتهاد، فإننى أرى أن مصر بالفعل بلد آمن ومطمئن، وأن العمليات الإجرامية والإرهابية باتت محدودة جداً، ولكن نحن مَن نسوق لأنفسنا أننا نعيش في بلد إرهابى، ومَن يُردْ أن يكتشف ذلك فليُجْرِ مقارنة لمعالجة الإعلام وتناوله العمليات الإرهابية التي وقعت في فرنسا وتركيا، فحتى الآن لم تخرج ولو صورة أو مقطع فيديو يوضح بشاعة هذه العمليات، رغم العدد الضخم من الضحايا، وعلى العكس عندنا فالمواقع ونشرات الأخبار تعج بالأخبار وبالصور لأى حادثة وصور الجثث والمصابين أو عن العبوات الناسفة الهيكلية المضروبة، حيث ترى «الداخلية» أو الإعلام الأمنى أن نشر هذه الأخبار والصور يعطى الإحساس بأن الأمن يقوم بواجبه على الوجه الأكمل، بينما العكس هو الصحيح، حيث قرأت تصريحا لمسؤول رفيع في فرنسا يشير فيه إلى أن نشر صور هذه العمليات أو الضحايا هو الغرض الذي يريده الإرهابى، وهو أن يبث الرعب في نفوس الناس، فهل نحن مجانين حتى نساعده على نَيْل غرضه، صحيح نحن المجانين الذين نفعل ذلك (!!!)
وبالتأكيد أن من أهم العوامل التي دفعت «مارتن يول» لقبول عرض الأهلى هو اسم النادى وتاريخه وبطولاته، وهو ما يمثل تحديا لمدرب معروف عنه قوة التحمل والمثابرة، والأهم هو مصداقية محمود طاهر الذي سافر إلى المدرب والتقاه في إنجلترا، الأسبوع الماضى، ليس بهدف الإقناع، بل بغرض إطلاعه على التفاصيل الخاصة للكرة المصرية، من حيث سوء مستوى بعض الملاعب وعدم انتظام المسابقة والتغيرات في الجدول وغيرها من العوامل والظروف التي لا يوجد لها مثيل في العالم، فالأوروبيون يحترمون الوضوح والشفافية، ومحمود طاهر مدرك منذ اللحظة الأولى أن الأهلى ليس في حِمل هزة أخرى في حالة رفض المدرب الاستمرار.
وحتى نكون منصفين، فإن الأسكتلندى «أليكس ماكليش» من المدربين المهمين في بلده، وموافقته على قبول عرض تدريب الزمالك أمر يستحق الإشادة والإعجاب، ووجوده في مصر إلى جانب «مارتن يول» سيضيف للكرة المصرية، لأنه هو الآخر من المدربين الجادين والمجتهدين، ولكننى أنقل لكم تعجب موقع ‹سكوتش ديلى ريكورد الأسكتلندى من موافقة «ماكليش» على تدريب الزمالك، رغم علمه بتدخلات رئيس الزمالك في عمل الأجهزة الفنية، وقال الموقع إن «مكليش» لم يستطع التأقلم مع نادى نوتنجهام فورست ومالكه رجل الأعمال الكويتى فواز الحساوى، حيث أشار المدرب الأسكتلندى، بعد مغادرته النادى بعد عمل 40 يوماً فقط، إلى أن المدربين هناك يتعرضون لإزعاج شديد من الملاك الذين يظنون أنهم يدفعون الأموال كى يتحكموا في كل شىء.. ويسأل الموقع، وأنا أسأل معه: كيف لـ«ماكليش» الذي رحل عن نوتنجهام بعد 40 يوماً أن يقبل العمل مع الزمالك الذي يوجد فيه نفس هذا النوع من الإزعاج؟
■ ■ ■
ونترك الكلام المبهج عن المدربين المهمين اللذين وافقا على العمل معنا، ونأتى للكلام المحزن الكئيب، ففى نفس اليوم الذي كانت فيه جماهير الأهلى تنتظر مدربها الهولندى العالمى، أقحم خمسة من أعضاء مجلس إدارة الأهلى، بقيادة د. أحمد سعيد، نائب الرئيس السابق، أنفسهم على المشهد ليضعوا رتوش الضيق والكآبة على جماهير وأعضاء النادى بذهابهم إلى المهندس خالد عبدالعزيز، وزير الشباب والرياضة، لتقديم استقالتهم من مجلس الإدارة، الذي تم تعيينه بعد قرار المحكمة بحل المجلس الشرعى المنتخب من الجمعية العمومية، وهو نفسه المجلس الذي أعاد الوزير تعيينه بكامل تشكيله المنتخب، إلا أن هذا لم يُرضِ الخمسة لأسباب يقولون عنها إنها من قيم ومبادئ الأهلى، رغم أن اثنين من الخمسة سبق أن وافقوا على قرار تعيينهم من قِبَل الوزير السابق طاهر أبوزيد، ما يعنى أن القضية ليست في المبدأ، بل في نفوس لا يروق لها للأهلى أن يستقر ويهدأ وأعضاء لا يقدرون حجم المسؤولية الضخمة التي انتُخبوا من أجلها، ولا يدركون أن الأهلى يلقى من ذاكرته أسماء مَن يتركونه في محنته أو يلقون به في أوقاته العصيبة من أجل عنترية شخصية أو الاختلاف والتفرد من أجل التميز والانفراد بمواقف، التاريخ سيذكر هؤلاء الستة، بقيادة محمود طاهر، الذين لم يهربوا ووقفوا أمام طوفان الهجوم الشرس وغدر القريب قبل البعيد، وشاء الله أن يوفقهم، فيستعيد فريق الكرة توازنه ويتقدم على قمة الدورى، ثم يتعاقد المجلس مع مدرب اتفق الجميع على أنه كفء وعالمى وسيُحدث طفرة، وربما يترك بصمة إذا ما تكاتف الجميع حوله، تخيلوا ماذا كان سيحدث لو أن هؤلاء الستة هربوا مع الهاربين، وتخلوا عن مسؤوليتهم، ولم يتحملوا الظروف الصعبة التي وُضعوا فيها، كان الأهلى سيضيع لسنوات.
وعن نفسى، لا يحزننى على المستوى الشخصى من موقف الخمسة سوى الكابتن طاهر الشيخ الذي عرفته شخصا هادئا ووديعا متصالحا مع نفسه والآخرين، رجلا يحمل صفات الفنانين ونبلهم، كيف بُثَّت فيه جينات الكراهية تجاه ناديه وزملائه في المجلس، وكيف قبِل أن يتخلى عن ناديه، وهو الذي سبق أن قبِل التعيين وقت حل مجلس حسن حمدى.. إنه أحمد سعيد الذي أتوجه إليه بالسؤال: ماذا فعل لك الأهلى حتى تفعل به هذا وتنتقم منه؟ فإذا كنتَ تختلف أو تكره رئيس النادى الذي رشحك ونجحت أنت وزملاؤك الأربعة على قائمته، فليس معنى ذلك أن تشوه صورة النادى وتأخذه إلى نفق معتم، في وقت ينتظر منه الجماهير والأعضاء أن يعود أقوى مما كان، والقوة تأتى من الوحدة ونكران الذات، وهذا ما أنجح هذه المجموعة بالكامل في الانتخابات، أما الفرقة والفتنة وتشويه الصورة بتسريب الأخبار واستمالة بعض الإعلاميين الكارهين للنادى، فهذه هي النهاية ليس للنادى، بل لهؤلاء الذين يقدمون مصالحهم ومشاكلهم الشخصية على مصلحة الأهلى. والسؤال الثانى: كيف ستعود مرة أخرى إذا حكمت المحكمة بعودة المجلس المنتخب؟ وكيف سيكون الحال داخل مجلس قسمته وشرخته وقطعت أوصال الصداقة والمودة؟ ولأننى لا أنتظر منك استقالة جديدة، فإننى أتمنى على المهندس محمود طاهر أن يطرح الثقة في مجلس الإدارة فرداً فردا، حتى يعلم كل منهم رأى الجمعية العمومية فيه الآن وحجمه الذي بات عليه.
■ ■ ■
والمؤسف أن حال استقبال جماهير الزمالك لمدربها الجديد لم يكن أفضل من جماهير الأهلى، حيث تزامن يوم المؤتمر الصحفى للمدرب الأسكتلندى مع معركة كلامية بين ميدو ورئيس النادى، وهنا ألوم على ميدو في لقائه الأعلى مشاهدة مع عمرو أديب أنه انزلق في كثير من المواضع بنفس الطريقة المُسِفَّة التي كان يشكو منها، وألقى بتلميحات وكلمات كان في غِنى عنها، فالسفيه يكسبك عندما يأخذك لأرضه، والله العظيم لو توقفنا لفترات عن النزاع والمشاكل فسنستمتع بأجمل وأقوى موسم كروى.. بس مين يسمع.. ومين يقرأ؟