ثلاث سويديات في القاهرة

مكاوي سعيد الأربعاء 02-03-2016 22:05

(انتقل القاضى «طورشتين» إلى القاهرة لمتابعة عمله في المحاكم المختلقة في عام 1917، واستقر بمنطقة جاردن سيتى في شقة كبيرة بالمنطقة الخضراء بالقرب من النيل، حيث توجد السفارة الإنجليزية التي تطل حديقتها الضخمة على النيل. وسعد القاضى جدًا بإقامته في هذا المكان الساحر، حيث الفيلات، والحدائق المزدهرة. إنه مكان مثالى، ويُعرف بـ«إنجلترا الصغيرة» في منتصف القاهرة. واكتشف القاضى وجود «جراج» أيضا أسفل المبنى، فقرر شراء سيارة، وأصبح من القلائل الذين يمتلكون سيارة في هذه المدينة الساحرة ويسيرون بالسيارات بجوار العربات التي تجرها الحمير. كان التناقض بين الأجانب والأثرياء المصريين من جهة، والمواطن البسيط من جهة أخرى، تناقضا صارخا، وبدا للقاضى أن البسطاء قد رضوا بقدرهم.. واكتشف القاضى أيضا، وهو يسير بسيارته، أنه لا توجد إشارات حمراء في القاهرة، فحركة المرور كانت نادرة. كان هناك فقط شرطى مرور يمسك بعمود خشبى ذى وجهين، وجه يحمل اللون الأخضر، والآخر يحمل اللون الأحمر يديره عند الرغبة في إيقاف السيارات).

هذا مجتزأ من أحد فصول رواية (ثلاث سويديات في القاهرة)، وهو أقرب إلى الكتاب التوثيقى المهم رغم سرده الذي حاولت مؤلفته (آن إيديلستام) أن يحاكى السرد الروائى في بعض فصوله، وأرى أن أهميته أكبر من قولبته كرواية، فـ(آن) المؤلفة، وهى باحثة في علم الأجناس البشرية، والمؤرخة الإسلامية، والصحفية التي تتحدث بلغات ثلاث، توثق في كتابها هذا بتفاصيل بالغة الدقة وساحرة سيرة عائلتها السويدية بداية من السويد بلد المنبت، وصولا إلى القاهرة التي استقرت بها جدتها «هيلدا» في عشرينيات القرن الماضى، ثم أمها «إنجريد»، وهى من بعدهما، وتروى الحفيدة ببراعة الحكايات الواقعية الكاشفة عن سمات المجتمع المصرى بداية من عشرينيات القرن الماضى حتى عهدنا القريب عام 2011. والكتاب صدر هذا العام 2016 من الدار المصرية اللبنانية، وبترجمة عن السويدية للأستاذة مروة إبراهيم آدم، أما الذي كتب مقدمة الكتاب فهو راحلنا الكبير «بطرس بطرس غالى» ويصفه بالعمل الرائع (الذى سمح لنا من خلال القصص الأصلية لثلاث بطلات من ثلاثة أجيال لعائلة سويدية عاشت في مصر أن نتعرف على التطور والتحول الذي حدث بوطننا على مدى ثلاثة عقود مهمة. ويكشف لنا ثلاثة مصائر متشابكة: الجدة التي كان زوجها قاضيًا في المحاكم المختلطة، والابنة التي تزوجت من السفير السويدى في القاهرة، وأخيرًا الحفيدة كاتبة هذا العمل، التي تلقت تعليمها في القاهرة ثم عودتها لتقع في التناقض الصارخ بين الواقع المؤلم الذي تكتشفه بعد سنوات من الغياب، وبين عمق الذكريات الساحرة، التي انتقلت عبر الأجيال في عائلتها).

من أكثر ما جذبنى في هذا الكتاب تفاصيل القاهرة الساحرة في الفترات التي صارت بيننا موغلة في القدم، وحياة هذه العائلة وتفاعلها معنا في كل الأحداث الجسام التي مرت بوطننا، بداية من الحرب العالمية الثانية وانتهاء بثورة 25 يناير، والقدرة المذهلة على تذكر مشاهد مصرية جميلة نقلتها الحفيدة عن الأم عن الجدة ببراعة. ومنها أن العائلة اليهودية «كاسترو» تمت مصادرة قصرها في الستينيات، ثم أصبح مقرًا لإقامة أنور السادات، ولم تستطع زوجة كاسترو أن تمنع نفسها من الشكوى قائلة: «السيدة جيهان تقدم الشاى لضيوفها مستخدمة أدواتى الفضية».