(1)
تعمد الدكتور بطرس غالى في مذكراته التي صدرت تحت عنوان «بانتظار بدر البدور.. يوميات 1997- 2002»، ألا يفتح «صندوق باندورا» عن آخره، لأنه يعرف حجم اللعنات التي ستصيبه قبل أن تصيب الآخرين، إذا ما ذهب في صراحته إلى المنطقة المحرمة داخل «القصر الكبير»، وكشف أسرار الكهنوت عن زملائه من رجال السلطة، لكن غالى أيضا لم يلتزم بتقاليد التحفظ وكياسة الدبلوماسى، فذكر ما ندم على ذكره، وذكر أيضا ما كان يقصد أن يذكره وهو يعرف أنه سيثير حساسيات البعض.. ربما ليملأ بقليل من الصخب رتابة المرحلة الجديدة التي دخلها بعد تجريده تدريجيا من السلطة.. إنها حيلة نفسية دفاعية يحاول من خلالها الإنسان الذي شرب عصير السلطة أن يحقق لنفسه قدرا من التوازن والإحساس بالفاعلية والحضور.
(2)
لم يكن غالى في مذكراته «يمازح» رموز السلطة بتعليقاته الفاضحة والساخرة التي كتبها عنهم، لكنه استخدم تعبير «الممازحة» ليبرر صراحته للقليلين الذين عاتبوه، ولم يكن غالي أيضاً يتحدث دون وعى كاف بأن كلماته ستنتقل من مدوناته الخاصة إلى فضاء النشر العام، بمعنى أنه لم يكن مثل الشيخ حسنى في رواية «الكيت كات» لداوود عبدالسيد، تحدث عن الأسرار التي يعرفها دون أن يدرى أن الميكروفون مفتوح، لكن غالى تجرد فتجرأ، سكت طويلا وتحفظ كثيرا، وكان لابد أن يفصح عن بعض مكنوناته، وساعدته على ذلك عوامل أخرى، سنرصدها من خلال قراءة المواقف التي تعكس نظرته للسلطة وتأثيرها في الرجال.
(3)
استوقفتنى بشدة حالة «التفلسف» التي دخل فيها غالي وهو يتأمل لحظة خروجه من الأمم المتحدة، خاصة عندما اعتبر رحيله «نهاية بشكل أو بآخر»، فالرجل الذي عاش حياته رحالاً يكتب عن رحيله من المبنى الشاهق في نيويورك: «الرحيل هو موت إلى حد ما»، هكذا قال «المسافر دائماً» الذي وصف عائلته بأنها «عائلة ارتحالية» تتوزع بين أنحاء الأرض، وأفصح عن أمنيته في أن يتمكن من تخصيص كتاب عن هذه الظاهرة.. غالى الذي كان يزور بيته في القاهرة لأيام قليلة كل عام يتحدث عن الوطن بحنين دائم، وكأنه مجرد «ذكرى»، وليس مكاناً للإقامة، لذلك يقول بعد خروجه الأخير من المنظمة الفرانكفونية: «أصل إلى مطار القاهرة.. أشاهد بؤس المدينة التي ولدت فيها وحال الإهمال الظاهر للعيان.. أصل إلى مسكني الذي تسلل البرد إليه بسبب غيابنا الطويل.. يبدو أن مصر تريدنى أن أدفع ثمن عدم وفائى لها».
(4)
بعد هذه العودة التي يتماهى فيها الوطن كله مع غالى ومسكنه، نشعر بأن الدبلوماسي الأرستقراطي يرى كل شىء من خلال «نظارة سوداء» فمصر تعانى منذ عقود كان خلالها غالى يتحدث عن الأمل والمستقبل، لكنه خلال الأيام الأخيرة من عام 2002 شعر بأنه «خائب الأمل» و«محبط»، أما أسباب إحباطه فتعالوا نقرأها كما دونها في مذكراته: تحدثت إلى شخصيات مختلفة في الحكومة والمعارضة، وعلى الأخص مع ممثلى الجيل الجديد، جيل التغيير، أمضيت أكثر من ساعة هذا الصباح (30 يناير 2002)، أتناقش في مستقبل مصر، مع رئيس الوزراء عاطف عبيد، كان عبيد متفائلاً، ولا أعلم إن كان تفاؤله صادقاً، أو أن مهامه على رأس السلطة التنفيذية هي التي تفرض عليه هذا التفاؤل.. خرجت من كل هذه اللقاءات خائب الأمل محبطاً..!
(5)
في اليوم التالى يتحدث مع نفسه بفلسفة حزينة عن «الزمن»، قبل أن يعلن يأسه حتى من «بدر البدور»الذى كان ينتظره. لا ندرى هل كان غالى ينتظر مثلا أن يكون أول رئيس مسيحى لمصر؟ أم أنه كان ينتظر شيئا آخر لا نعلمه ولا يعلمه هو أيضا.. فمنذ حدثه «العراف الهندى» أن نجمه سيلمع ويشع بنور لا مثيل له بعد خروجه من الأمم المتحدة، وهو «ينتظر ما لا يجىء»، وعن هذه الحالة قال غالى: لم أجد وسيلة أخرى للإحساس بوجودى سوى الإذعان للزمن (...) أنا بائس هذا المساء، لم يبق لى سوى وقت قليل جدا لأفكر لأعمل، لأبنى.. وقت قليل جدا لأغزو العالم، لم يتبق لي إلا بضعة «أهلة» صغيرة، لقد انتهى بدر البدور..!
(6)
تبدو الكلمات الأخيرة التي اختتم بها غالى كتابه، أقرب إلى «تعاويذ» غير مفهومة ربما كان يقصدها هكذا، وربما كانت مجرد كلمات للتذكرة دونها في «النوتة» الخاصة. ليكتب تفاصيلها فيما بعد وأخفق شارلى هيل في صياغتها وربما بسبب ضعف في الترجمة، لكنها على كل حال تبقى من الناحية الأدبية ملائمة أكثر للجو النفسى وهمهمات النهابات المفتوحة، ففى رأيى أن مشاعر الحزن والإحباط وخيبة الأمل، التي سيطرت على غالى في الليلة الأخيرة من عام 2002، لم تكن أبدا بسبب نتائج غير مشجعة للقاءاته مع مسؤولين ومعارضين مصريين، فالرجل الذي يعرف الكثير عن كواليس الحكم ورجال الحكم في مصر، لا يمكن أن تنقلب مشاعره فجأة لأسباب خارجية، فقبل عام كامل من لقائه مع عبيد الذي يقول إنه خرج منه محبطا خائب الأمل استقبله رئيس الوزراء في مكتبه، وخرج غالى ليدون في أوراقه الخاصة ما يلي: عاطف عبيد.. رجل تبدو عليه علامات الشيخوخة والتعب، أرهقته ممارسة السلطة.. أشاكسه طوال فترة محادثتنا وهو يقاوم النعاس.. عبثا أتكلم بصوت عال حتى لا يغط في النوم، لكن انتهى به الأمر فعلاً إلى الإغفاء، بينما أنا في دهشة كبيرة!
(7)
ياللمصيبة، لقد شاهد غالى بنفسه الحكومة وهى نائمة أثناء العمل، ومع ذلك لم يزل لديه أمل ليعبر لنا بعد ذلك عن خيبته!. الطريف أن غالي صمت بضع لحظات أمام رئيس الوزراء النعسان ثم قال له بصوت مرتفع ليوقظه: «إن صورة مصر كما صورة العالم العربى سيئة جدا.. يجب أن نبادر إلى هجوم معاكس.. المجتمع المدنى، المنظمات غير الحكومية نستطيع أن تساعدنا في تصحيح هذه الصورة، ولنحذو حذو المغرب وتونس اللتين أنشأتا وزارة لحقوق الإنسان»..
كان غالى يحاول دخول الحكومة من جديد عبر وزارة يؤسسها لحسابه.. لكن «بدر البدور» تقلص فيما بعد إلى مجلس قومى هزلي لحقوق الإنسان؟
والمهازل مستمرة.
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com