نواصل فى هذه الحلقة نشر الأوراق الإصلاحية، التى تقدم بها مجموعة من الإصلاحيين من جماعة الإخوان عبر القنوات الشرعية منذ ربع قرن فى محاولة لتطوير آليات عمل الجماعة، وهى الأوراق التى لم تحظ بالدراسة أو البحث داخل الجماعة، وفى هذه الحلقة الأخيرة يختتم الباحث هيثم أبوخليل عرض أهم أفكار وملامح الورقة، حيث يوضح كاتبوها الدور المطلوب من الجماعة وتفاعلها بين الظاهرة الإسلامية من جهة وجمهور المتدينين من جهة أخرى. وترصد الورقة هذه المحاور، ويقول كاتبوها: تشهد الظاهرة الإسلامية انتشاراً واسعاً ونمواً متزايداً فى مستويات ومجالات واسعة، نشهده فى المظهر والشكل، ونشهده فى الاقتصاد والتجارة، ونشهده فى الصحافة والإعلام، كما نشهده فى المساجد والندوات الدينية، بل ونشهده فى الفن والتمثيل، ولكن رغم النمو المتزايد والانتشار الواسع للظاهرة الإسلامية، فإن علاقة الجماعة بها مازالت قاصرة وغير قادرة على توظيفها التوظيف الصحيح لصالح المشروع الحضارى الإسلامى وهدفه التغييرى، وهناك العديد من العقبات والأسباب وراء ذلك يمكن إجمالها فيما يلى:
(1) تعانى الظاهرة من مركب جهل رهيب فهى جاهلة بنفسها، جاهلة بالواقع الذى تعيش فيه، وواقعها بالمقابل جاهل بها وبأهدافها وأطروحاتها، ولا يعرف عنها أحد إلا القليل، اللهم إلا أعداؤها. والجماعة عندما تتعامل مع التيار الإسلامى عموماً ومع جمهور الظاهرة تعانى من آثار هذا الجهل وتتورط فى ما يمكن أن ينتج عنه من أخطاء.
(2) ضعف شبكة المصالح والعلاقات بين أفراد الظاهرة، وبينهم وبين مجتمعهم، مما يضعف قدرة الظاهرة على التأثير فى واقعها وتصعب عملية التوظيف بالقطع.
(3) ضعف مؤسسات المجتمع المدنى رغم تضخمها الظاهرى وبالتالى لا توجد قنوات تستوعب استعدادات أفراد جمهور الظاهرة سواء داخل أو خارج مؤسسات الجماعة تتجاوب مع فهمهم للإسلام.
(4) إصرار الجماعة على التسييس، ويتضح ذلك فى طرح الحركة وخطابها وأسلوب حركتها فى المنابر العامة التى وصلت إليها، وهذا الإصرار يفض من حولها جمهورا كثيراً إما خوفاُ أو اشمئزازا من السياسة وما عليها من محاذير، وهذا يحرم الجماعة من جماهير عريضة يمكن أن تساعد فى عملية التوظيف.
(5) العقلية التنظيمية الحزبية الضيقة لأبناء الجماعة التى لا ترى توظيفاً للطاقات إلا عبر بوابات التنظيم وعلى خطوط سيره أو بمتابعة أطره، والتى لا ترى نجاحاً إلا فى نمو التنظيم رأسياً وأفقياً، والتى تصوغ علاقتها قرباً أو بعداً، اهتماما أو عزوفاً على هذا الأساس.
(6) ضعف القدرات الإنسانية العامة لأبناء الجماعة فى الاتصال بالناس واكتسابهم والتأثير فيهم وهى مشكلة يعانى منها المجتمع ويلقنها لأبنائه.
(7) غياب منهج التعامل مع الآخر وتوظيفه وما يلزمه من أرضية ثقافية. يغيب هذا المنهاج وما يتطلبه من خلفيات وأرضيات ثقافية وبرامج عملية عن مناهج الجماعة.
(8) انعزال الجماعة شبه الكامل عن الأدوات الرسمية للاتصال والتأثير والتوظيف المناسب.
(9) قصور الخطاب الإعلامى والثقافى الإسلامى الصادر عن الجماعة كماً ونوعاً.
(10) الانفصال بين مجالى التخصص الحياتى والموهبة، أو مجال عمل الدعوة يضعف قدرة العنصر الإسلامى فى استخدام كل طاقاته، وكذلك رعاية المواهب داخل الجماعة.
(11) ضعف التوظيف داخل الجماعة نفسها بحيث تعانى من تكدس فى مجالات معينة وندرة هائلة فى مجالات أخرى.
(12) غياب آليات التوظيف وتطبيقاته عن جسم الجماعة أضعف قدرة أبنائها على ممارسة هذا الأمر، ففاقد الشىء لا يعطيه.
(13) الفجوة بين الصفوة والجماعة، بوصف الصفوة هى قيادة المجتمع ولو بصورة غير مباشرة، كذلك بين المفكرين والجماعة، بوصف المفكرين مهتمين بها وقادرين على خطاب أعمق تأثيراً.
(14) التضييق فى المناخ العام للمجتمع يحجم بين مساحة الاحتكاك بين الجماعة وجمهور الظاهرة.
(15) الفهم القاصر للإسلام والتكريس المستمر له فى الذهنية العامة عبر الوسائل المختلفة.
(16) غموض وقصور الخطاب الموجه والمنهاج الضابط فى التعامل مع المرأة.
الظاهرة الإسلامية تنمو إذن، ولكن بمعزل عن غالبية الأطر الحركية والتنظيمية والفكرية الموجودة، ولا نبالغ لو قلنا إن تأثير الأطر عليها يكون أحياناً سلباً لا إيجاباً.
إنها تعيش كاملة بالتقريب فى الجو العام للمجتمع وتتأثر به مما أصابها من أمراض عدة نذكر منها:
أولاً: الانصراف عن الهم العام وانشغال كل بمشروعه، وينعكس ذلك فى بروز مظاهر التدين الشخصى (الحجاب، النقاب، المسبحة...) وضمور قيم التدين الجماعى مثل الاجتهاد فى العمل، والإنفاق فى سبيل الله، وبذل الجهد فى الإنتاج، وغيرها..
ثانياً: ضعف الثقافة العامة بل والثقافة الإسلامية، حتى إننا لا نبالغ إن قلنا إن الفرق بين ثقافة جمهور الظاهرة وثقافة رجل الشارع ليس كبيراً، وبالتالى يصبح سهلاً خداع الظاهرة وتقديم الإسلام لها على أى صورة، فملامح النموذج الإسلامى غير واضحة وكذلك محاور المشروع.
ثالثاً: ذوبان الذات وانسحاق الشخصية، ونعنى بذلك الممارسات غير المنضبطة وغير الواضحة شرعاً من العلاقات والمعاملات من أفراد محسوبين على الظاهرة تياراً وجمهوراً.
رابعاً: التأثر الشديد بالخطاب الإعلامى المعادى للجماعة فى أغلب الأحيان
خامساً: الموقف غير الواضح من الأقباط.
سادساً: ضعف دور المرأة وحجم مشاركتها رغم ارتفاع نسبة هذه المشاركة من الناحية العددية.
الظاهرة الإسلامية، والتى تمثل الجماعة أحد روافدها لم تستطع، رغم التزامها وتناميها، تخطى العقبات والتخلص من الأمراض التى يعانى منها مجتمعها وتمنعه من التقدم، وبالتالى أصبحت الظاهرة تختلف عن مجتمعها، ولكن ضمن الإطار المتخلف نفسه والتابع شديد القصور والقدرة على التطور.
إن الظاهرة تنمو تدريجياً ولكن المجتمع حتى الآن قادر على قضمها قطعة قطعة وهضمها وتذويبها داخل نسيجه بل وتوظيفها لمصالحه المادية، المجتمع يحركها أكثر مما تحركه ويؤثر فيها أكثر ما تؤثر فيه، لقد ابتعدت الظاهرة عن فساد مجتمعاتها، الثقافى والفكرى والاجتماعى والسياسى، خطوات لكنها ليست كافية للتغيير.
إن الظاهرة الإسلامية تنمو برضاء المجتمع إلى حد كبير وداخل أطره ومؤسساته وتعيش بداخله، وتستخدم أساليبه نفسها، وتعانى من أمراضه نفسها.
وتكمن المشكلة عندما نرصد أن الظاهرة لا تسعى لتغيير هذه الوضعية للأفضل.
ونعتقد أن الخطوة الأولى لعلاج هذا القصور هو استعادة الثقة على المستويات الثلاثة: الجماعة، والتيار الإسلامى، وجمهور الظاهرة، لابد من ثقة بجدوى المحاولة والقدرة على التغيير فى واقع محبط وضخم، وقناعتنا أن هذه الثقة تدخل طرفاً فى علاقة جدلية مع وضوح الذاتية الإسلامية، فلابد من بناء سريع لهذه الذاتية.
إن أخطر المهمات التاريخية المطلوبة من أهل الرأى والثقة والفقه فى الأمة فى مرحلة ما، هى صياغة واضحة للعلاقة بين الإسلام والمرحلة: ماذا نأخذ وماذا نترك؟ وكيف نتفاعل؟ ماذا نقبل؟ ماذا نستنكر؟ كيف نفكر؟ ماذا نقرأ؟ وكيف ندير علاقتنا مع الآخرين...
والإجابات بعد ذلك ليست صعبة، نحن فى حاجة إلى برامج واضحة وخطط لتغيير العقلية الإسلامية ومعالمها، ونحن فى حاجة إلى قنوات واضحة ومستوعبة ومتنوعة للمشاركة والتوظيف، ونحن فى حاجة لنماذج مبهرة لافتة للانتباه فى كل موقع وصلنا إليه، ونحن بحاجة إلى استكشاف سريع وعميق لأبعاد الظاهرة ومكوناتها واتجاهات جمهورها، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر فى الخطاب الإعلامى الإسلامى الخاص بالجماعة ومراعاة اتجاهات الجمهور وروح العصر فى ذلك، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر مرحلياً على الأقل فى صيغة الجماعة الشاملة لكل المهام من تربية للإرادة وممارسة العمل السياسى، وخوض لميادين الجهاد الاجتماعى والتحول مرحلياً على الأقل بالرضا بمجالات معينة ومحددة وسد العجز فيها.
وكما يقول شيخنا الغزالى: «لقد آن للصحوة الإسلامية أن تتحول من خطوات متسارعة مشدوهة مضطرة إلى مسيرة راشدة لمصلحة الأمة».
وترصد الورقة أن المصارحة بأزمة الجماعة هى بداية الحل، حيث يأتى فيها:
الفشل فى الوصول إلى الأهداف التى تصدى لها الإسلاميون من أهداف مرحلية أو استراتيجية خاصة أن سمات الفترة الماضية تميزت بنوع من التحدى السلمى للإسلاميين عن طريق إتاحة هامش حرية نسبية لهم، لم يعايشوه من قبل، ويبدوا أنهم لم يكونوا مستعدين لممارسته بل والتكيف مع هذا الجو الجديد، وهو جهد أظهر أنهم غير قادرين على الحركة المتفاعلة السريعة وهم الذين اعتادوا الأناة والسلحفائية وإهمال عنصر الزمن بشكل أو آخر من خلال حياتهم فى المعتقلات والسجون.
لاشك أن هذه اللحظة هى من لحظات الحسم والقطع، ولم يعد من الممكن الاستمرار فى الاتجاه نفسه دون بصيرة ودون وعى، خاصة أن مبررات السير وبهذا الشكل فى الماضى من ملاحقة واضطهاد لم تعد موجودة الآن بالشكل نفسه، لذا فإن الاستمرار بالشكل نفسه هو مقامرة بمعنى الكلمة.
هناك أزمة مصيرية بلا شك تواجه الجماعة وهى من الأهمية بمكان لأنها تتناول جهوداً ضخمة مخلصة وتهدد قدراً كبيراً من المكاسب، بذلوا الكثير من جهودهم ووقتهم للحصول عليها.
لابد أن نعترف بداية بوجود أزمة، وإحياء جو من النقاش والحوار والمراجعة والمصارحة بيننا وبين من يهمه الأمر ويجب التركيز على هذه القيمة «قيمة الحوار والمراجعة والمصارحة» لأنها الباب الذى يحمل الأمل إلينا دائماً أن يلج إلينا منه الحل.
وهذه القيمة «الحوار والمراجعة والمصارحة» هى أغلى ما يجب أن نحافظ عليه أو نوجده بأى وسيلة كانت وبكل صوره المتاحة لأن هذه القيمة هى مفتاح حل هذه الأزمة، والأزمات المستقبلية، والفشل فى إحياء هذه القيمة هو الفشل التام الذى تصبح بجانبه كل عمليات الإنعاش مضيعة للوقت والجهد ونوعاً من ضروب المحال، ونعتقد أنه أمامنا فى هذا المجال أحد المستويات لمواجهة هذه الأزمة، المستوى الأول: استنفار العقول الهائمة الغائبة عن رشدها من رقدتها لتعى حجم الأزمة ولتحمل مسؤوليتها فى حلها. والمستوى الثانى: أن نتصدى نحن أنفسنا ومن يحمل معنا هذا الهم لهذه الأزمة ونحاول دراسة أبعادها ومضامينها وإشكاليتها ووضع حلول مقترحة لها قدر الاستطاعة.
وستواجهنا إشكالية هى كيف نخرج من دائرة الفهم ودراسة أبعاد الأزمة ووضع الحلول المقترحة إلى دائرة التطبيق ومن يقوم بهذه النقلة وكيف ومتى؟، لذا نرى أن الحل المتصور لهذا العمل يكون على المستويين معاً مع الوضع فى الحسبان أن المستوى الأول للجماعة هو الأساس ولكن نظراً لأننا لا نعرف متى؟ وكيف؟ وكم يستغرق من الوقت لنصل إليه فلابد من ممارسة القدر المتاح والجهد الممكن على المستوى الثانى.
إذا أردنا وضع إطار أولى لحجم المشكلة ووضعناها فى المكان الصحيح فلابد من تحديد عدة مفاهيم كحدود أولية لهذا الإطار:
(1) إن مفهوم التناسخ ونسخ الجديد للقديم والإحلال محله تماماً هو مفهوم يجب التخلص منه إذ أن القاعدة أن تحتفظ بالمكاسب وأن تتخلص من السلبيات.
(2) يجب انطلاقاً من هذا المفهوم مراجعة تجارب الماضى لتحديد المكاسب والسلبيات.
(3) لا يمكن أن نصل لحلول شاملة بعيون نصف مغمضة أو عقول مقولبة بل ينبغى أن نخرج من جميع الحساسيات إلى أفق أرحب، ومن محدودية الرؤية إلى شموليتها وكمالها.
(4) المرحلة الحالية لا تحتمل التلفيق بل تحتاج لحلول صريحة ومباشرة وواضحة ولنعلم أن التلفيق لا يحل المشكلة وإنما ينقلها إلى المستقبل.
(5) الأصل هو الاستفادة الشاملة من جهود كل المخلصين والتخلص من الاستئثار بالتصدى للمشكلة، وينبغى إدراك أن الحل الناجح ليس هو الطرح فقط بل الممارسة التى تستطيع توظيف وحشد كل الإمكانيات لحل المشكلة.
(6) يجب التخلص من النظرة الكهنوتية للمشاكل والحلول فلا مجال لها الآن ويجب أن نحسم خياراتنا (العلمية والغيبية) فى التعامل مع الأزمات على أساس أسباب المشاكل وحلولها، وينبغى أن تكون من منظور علمى بحت وليس من منظور غيبى مثل: سنن الدعوات، إرادة الله بنا، محن وابتلاء، الشجرة التى تنفى خبثها، وليس هذا من منطلق رفض أو إنكار لهذه الغيبيات وإنما من باب أنه لا مكان لها فى التعامل مع الواقع ومعالجته.
(7) لابد من عودة للتفتيش فى الدفاتر القديمة لاستكشاف جذور المشكلة والوقوف عليها واقتلاعها، وإذا كنا ننادى بالعودة إلى التاريخ الإسلامى للاعتبار ودراسة مكاسبه وسلبياته فمن باب أولى أن نعود إلى تاريخ المدرسة الحديثة الذى للأسف لم نستطع فك رموزه أو حسم الجدل فى بعض غوامضه.
(8) ينبغى أن ندرس من جديد تصورنا لطبيعة الصراع والمشاكل والتخلص من التفسير التآمرى الذى يريحنا ويحل ويفسر لنا كثيراً من مشاكلنا حالياً.
(9) لابد من حسم خيار الطرح الإسلامى على أساس أن الطرح الحضارى للمشروع الإسلامى هو المقبول الآن.
(10) ترسيخ النظرة الإنسانية الشاملة للكون وللعالم وممارسة التفكير ووضعها فى مكان بارز فى طرحنا الحضارى على أساس أن الناس إما إخوة لنا فى الدين أو نظراء لنا فى الخلق.
وترصد الورقة صراع الجماعة بين الطرح الحضارى والطرح السياسى فتقول: إن الطرح السياسى يبدو له الغلبة الآن فى واقعنا لعدة اعتبارات لعل أبرزها الدور الذى أصبحت تضلع به السلطة السياسية فى المجتمع المعاصر بحيث أصبح لها الغلبة على المجتمع المدنى بحكم نزعتها الاستبدادية، بالإضافة إلى الصدام المستمر بين الحركة الإسلامية والسلطة الحاكمة فى كثير من البلدان المسلمة حتى تحول هذا الصدام المستمر فى أحيان كثيرة إلى تراث تاريخى يعمق نظرة عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين، وينطلق هذا الطرح من مقولة «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ليجعل هدف الوصول للسلطة للتغيير باعتبار السلطة فاسدة، هذا الطرح صراعى الطبيعة هو أحد الأسباب الرئيسية للصدام المستمر بين الأنظمة والحركات الإسلامية، وهو يؤجل حل المشاكل التى يعانى منها المجتمع حتى إقامة نظام إسلامى أو الوصول للسلطة ناسياً أو متناسياً أن أول متطلبات النجاح لأى حركة سياسية أو تيار إسلامى هو قدرته على تقديم الحلول لواقعه الذى يحياه، وهذا الطرح انعزالى عن الواقع الذى يحيطه وأدت هذه الانعزالية أحياناً إلى شطط وانحراف فى التفكير.
أما الطرح الحضارى الذى نعلن تبنينا له من البداية فهو ينطلق من الإسلام باعتباره دين تحرر من عبادة الطاغوت، وهو كل ما يعبد من دون الله، فى ضوء هذا الفهم لابد أن نحدد أبعاد المعركة الحقيقية للعمل الإسلامى وهى فى اعتقادنا معركة ذات طبيعة حضارية معركة بين نموذجين للحضارة: غربى سائد يجعل الإنسان متمردا على الله محور حضارته، ونموذج صاعد للإنسان المستخلف فى الأرض فى محور ارتكازه.
معركتنا فى أحد أبعادها مع النفس، مع القابلين بالتخلف، بعبارة أخرى تحقيق الشروط الذاتية للنهضة بما يعنيه ذلك من تصفية نفسية تاريخية فى المجتمع،
الشرط الثانى مرتبط بالإنسان ومن ثم فلابد من إعادة صياغة من خلال نظرية شاملة للتربية هدفها إيجاد الإنسان المتأهب للبناء الحضارى المدرك لمهمته الحضارية والمستبصر بثغره الحضارى والحائز على تربية مناسبة وملائمة لمثل هذا البناء الحضارى.
إنسان مدرك لأسس حضارته مستبصر بأسس الحضارة الغربية قادر على نقل منجزاته بوعى وبصيرة، إنسان واع بتوازنات القوى الدولية وأثرها على معركته، إنسان متابع لمعركة الحضارة الغربية فى دول العالم الثالث، قادر على مخاطبة شعوبها فيكسبها فى صفه.
كذلك قضية فلسطين قضية مركزية للعمل الإسلامى باعتبار أن تصفية هذا الجيب الاستعمارى هى أولى خطوات انطلاق العالم الإسلامى.
هذا الطرح ينظر إلى السلطة بأنها ضرورة حضارية وأصحاب هذا الطرح يعتبرون أن بداية ما أصاب المسلمين ليس ظلم الأنظمة بقدر ما هو تحول الخلافة إلى ملك عضوض واختفاء الشورى، فكانت الهاوية لانحراف المسلمين المبكر ومن ثم فإن بداية الإصلاح لا تبدأ من السلطة فقط بل تمر أولاً بالفرد فالمجتمع فالسلطة، هذا الطرح يفتح أمام العمل الإسلامى أفاقاً جديداً فهو يرتبط بالجماهير أولاً وأخيراً فهى صاحبة المصلحة فى تحقيقه أو هكذا ينبغى أن نصل بها وفى نفس الوقت هى القائمة بمعظم وظائفه.
وما دور الحركة الإسلامية إلا أن تحرك الجماهير وتقودها، وما الجماعة إلا منشط فعال نحو الحضارة فهى ليست منشئتها وحدها إنما دافعة إليها وفى هذا الإطار يجب أن يكون طرح الحركة الإسلامية معبراً عن آمال الجماهير وطموحاتها آخذة فى الاعتبار همومها ومشاكلها وهو طرح تجميعى يجمع القوى فيجعلها صفاً واحداً لمواجهة التحدى الحضارى القائم، يجمع أولاً غير المسلمين ممن يعيشون معنا حيث يكون الإسلام لهم حضارة وليس معتقداً يساهمون فى تشييدها وينعمون بإنجازاتها، ويجمع المذاهب والحركات الإسلامية المختلفة فيتحدون فى القبلة ويختلفون فى الفروع، ويجمع القوى والتيارات السياسية والعلمانية التى تدرك حجم التحدى الغربى وخطورته وتهدف إلى النهضة وإن اختلفت منطقاتها، ويجمع الشعوب المستضعفة ويعيد ترتيب الأولويات للعمل الإسلامى فيجعل من تحرر الإنسان أهم أولوياته وأولها معتقد أن العبودية لله أعلى مراحل التحرر للإنسان من سطوة الآخرين.
انتهى استعراض بعض الورقات الإصلاحية التى قدمت من حوالى ربع قرن لتطوير جماعة الإخوان المسلمين، والحقيقة أننى أرى أن استهلاك الوقت فى الدفع وصياغة المبررات أصبح أمراً غير منطقى وغير مقبول فربما انطلت التبريرات على البعض نتيجة مناخ عام سائد هذا سمته، لكن مظاهر التراجع والجمود لن تقنع البعض ولن يصمد أمامها كثيراً.
وهذا يرشح الأمر ربما للتغيير لكن الأمر الآن يتوقف على موقف الإصلاحيين الجدد ومدى تعلمهم من تجارب الماضى، فهل يستسلمون وينسحبون مثلما انسحب أقرانهم فى الماضى أم يضغطون من أجل التغيير والتطوير، فى رأيى أن الأيام القادمة ستشهد تغييرات وتأثيرات كبيرة ربما تكون غير مسبوقة لهم داخل الجماعة طالما أن القيادة لا تشعر بأن السياسة الخالدة: «يا ما دقت على الرأس طبول» أصبحت بلا معنى أو جدوى خصوصاً مع تحرك قارعى الطبول.