ولا أقصد هنا حى الحلمية القديم الذى أنشأه والى مصر عباس حلمى الأول، حفيد محمد على، من عام 1848 إلى عام 1854، الذى قتل فى قصره بمدينة بنها.. ولا حى الحلمية الجديدة الذى أنشأه عباس حلمى الثانى - آخر خديو لمصر - وحكمها منذ عام 1892 إلى عام 1914، لا أقصد مبانى كل حى من طوب وأحجار وشوارع.. ولكننى أقصد أخلاق مصر التى سادت حياتنا منذ القدم.. وكم «كانت» عظيمة أخلاقيات المصريين زمان.. وسلوكيات كل المصريين، ولا فرق هنا بين غنى وفقير.. أو بين ساكن قصر، أو كوخ بسيط لا يحميه من حر شمس أو برد شتاء.. وإن كانت هناك «مميزات خاصة» يتميز بها أبناء الريف عن أبناء المدن.. أو أبناء بحرى.. وأبناء الصعيد.. وإن كانت الأساسيات هى.. هى.
وإن حركتنى فكرة إعداد جزء سادس من المسلسل الأشهر ليالى الحلمية - وهو من أبرز أعمالنا الدرامية - ولا عجب أنها جاءت لتسجل لنا أخلاقيات زمان.. وربما نجح المسلسل فقط لأن مؤلفه ومبدعه يحمل ليسانس آداب، قسم اجتماع، ولكن لأن الراحل العظيم «تعمد» أن يسجل لنا ويحفظ كل ذلك فى عمل درامى، بحكم التأثير الذى يبقى للأعمال الدرامية الراقية.. وليس ما تقدمه الدراما الحالية من إسفاف وبذاءات وسباب.. وسلوكيات دنيئة!!
وأعتقد أن ذلك من أهم الأسباب التى دفعت المؤلف أسامة أنور عكاشة إلى أن يحفظ لنا كل ما كان جميلاً، زمان، وأتذكر هنا كيف كنت أنحنى لتقبيل يد «سيدى» أى جدى.. وكيف أننى لم أتجرأ يوماً على أن أنظر فى عينى أبى، وأتذكر كيف أن شقيق زوجتى الأكبر - وكان جداً - دخل عليه والده محله التجارى فرآه وهو يدخن سيجارة.. فلم يجد شقيق زوجتى إلا أن يضع السيجارة وهى مشتعلة فى جيب جاكيته، حتى لا يراه والده وهو ممسك بالسيجارة، أين ذلك الآن مما نراه من مسلسلات أو أفلام يجلس فيها الابن يدخن وهو جالس ماداً قدميه فى حضور والده.. أو يدعوه إلى كأس.
وإذا بحثنا عن أخلاقيات زمان - وبالذات فى مسلسل ليالى الحلمية- فإننا نجد كل ما هو عظيم، ليس فقط «الفتونة»، وكان أشهرهم فتوات الحسينية.. وفتوات العباسية.. أو فتوات بولاق، لأن الفتونة زمان كانت هى «الرجولة بنفسها» ولم يكن يجرؤ شاب أن يعاكس فتاة من فتيات الحى.. بل كان هو أول من ينطلق للدفاع عن بنات الحى ويرى فى رفضه ذلك التحرش ببنات الحى «المرجلة الحقيقية»، فأين ذلك مما نراه الآن من سطوة قرن الغزال أو السواطير والسيوف، وما شاع غيرها فى السنوات الخمس الأخيرة من عنف لا أخلاقى هو بكل المسميات هدم للمجتمع المصرى وتدمير لكل ما هو جميل فيه.
وحتى سنوات قليلة كان بعض هذا موجوداً، فهل ما حدث من انهيارات أخلاقية عندنا هو نتاج ما يحدث خلال الثورات الشعبية.. ليس فى مصر وحدها، ولكن فى كل شعب يعيش مثل ما عشناه طوال أكثر من خمس سنوات.. وهل ذهبت أخلاقيات زمان بذهاب زينهم السماحى الذى كان يمثل عصراً ظلت بعض روائحه الذكية تحيا الآن فقط- فى الأحياء الشعبية.. وحتى حى الحلمية تكاد تختفى منه تلك الأخلاق التى وجدناها فى حوارى الحلمية.. وهل ذهبت دون رجعة «وقفة» ولاد البلد بجوار بعضهم البعض يتشاركون فى الأفراح ويقتسمون معاً أيام الحزن والدموع.. والدليل أن الجار الآن قد لا يعرف شيئاً عن جاره فى البيت، فما بالنا بجيرانه فى كل الشارع والحى كله.
وحتى معارك زمان «كانت لها أصول» وقواعد لا يحيد عنها المصرى، وهنا يجب أن نعيد قراءة المقدمة الرائعة التى كتبها عباس محمود العقاد فى كتابه الرائع عن «سعد زغلول» الصادر عام 1936 وكان يتناول «طبيعة الأمة المصرية»، بكل ما فيها، حتى بين اللصوص الذين كان لهم - رغم ذلك - سلوكياتهم وأخلاقياتهم.
■ ولقد افتقدنا كل ذلك - وفى فترة زمنية قصيرة - ويبدو أن سرعة روتين الحياة مع المخترعات العلمية تضرب كل شىء.. حتى الأخلاق والسلوكيات الحميدة.. ولا يبقى للعواجيز من أمثالى إلا أن يطلقوا التنهدات وهم يحلمون بعودة أخلاقيات ليالى الحلمية.. التى كانت تحكمها أخلاق الباشوات التى نفتقدها الآن.. بكل أسف.