موسيقار الأجيال وأستاذ الأجيال.. التقديس والتدنيس!

طارق الشناوي الإثنين 29-02-2016 21:25

ربما تشعر عزيزى القارئ بقدر من التعسف في الربط بين قمتين لم تجمعهما تفاصيل الحياة إلا لماما، كل في مجاله محمد عبدالوهاب في الموسيقى ومحمد حسنين هيكل في الصحافة صار كل منهما عنوانا للمهنة، دعونى في البداية أعترف لكم أن هناك بالفعل ولا أنكر قدرا لا بأس به من التعسف ولكن عندما تتسع الدائرة أكثر ربما تكتشف مثلى تلك المنطقة المشتركة التي جمعت بينهما وهكذا تتآكل مساحات التعسف ليبدو الأمر وهو يحمل قدرا لا ينكر من التداعى الحُر، لا تنسى أن كل منهما تجاوز البقاء على هذه الأرض أكثر من 90 عاما، كل منهما ظل متمسكا بالضوء حتى آخر نفس مع نهم واضح في احتكار مصادر الضوء، كل منهما لم يغادر شاطئ الحياة إلا وهو مبدع، وحتى اللحظة الأخيرة هيكل ممسكا بقلمه، وعبدالوهاب ممسكا بعوده، عبدالوهاب قدم لجمهوره لحن ((أسألك الرحيلا)) بصوت نجاة قبل رحيله بأشهر قليلة، وكان يعد لأكثر من لحن قادم، هيكل كان يطل بانتظام على المشهد السياسى المصرى والعربى والعالمى من خلال برنامج ((مصر أين وإلى أين)) مع لميس الحديدى على قناة ((سى بى سى))، عبدالوهاب كان محط أنظار الجميع وفى بؤرة الاهتمام الإعلامى والجماهيرى، لا تمر مناسبة بدون أن يدلى برأيه، وهو ما ظل يمارسه هيكل، حتى في مرحلة التعتيم كانت إطلالته من قناة ((الجزيرة))، كل منهما تستطيع أن تصنفه أرستقراطيا برغم أنهما نشآ في أحياء شعبية هيكل ((الحسين))، وعبدالوهاب ((باب الشعرية))، كل منهما حقق أموالا طائلة من مهنته، كل منهما لديه تلاميذ يعترفون بفضل الأستاذ، وعلى الجانب الآخر تلاميذ متخصصون في انتقاده ويصلون لحدود السخرية من الأستاذ والتقليل من إنجازه، عشرات من الكتاب تشى كتابتهم بذلك وأخرهم الكاتبان الصديقان أسامة غريب وأحمد المسلمانى على صفحات ((المصرى اليوم))، بينما عبدالوهاب كثيرا ما طاله أقسى اتهام وهو الجهل لديك مثلا رأى د. جمال سلامة الذي أطلقه وعبدالوهاب على قيد الحياة عندما قال إن ((الريس متقال صاحب أغنية الفراولة بتاع الفراولة، أكثر ثقافة موسيقية من عبدالوهاب)).

رأى عبدالوهاب الإيجابى في أي فنان كان يغنى في الوسط الغنائى اعترافا بموهبته، وهكذا سعى كثيرون من أجل أن يجدوا لأنفسهم مكانا على خريطته ليحصلوا على شهادة وهابية، بل عدد ممن لم يضع لهم ألحانا اخترعوا مواقفا مشتركة تؤكد أنه كان لديهم مكانة عند الأستاذ، شىء من هذا تجده لدى هيكل، هناك دائما من يسعى لتأكيد موهبته، فيشير إلى أنه حظى بثناء الأستاذ أو التقاه أو كان بينهما مجرد تليفون عابر.

الفارق في الميلاد بينهما حوالى ربع قرن وهكذا غادر عبدالوهاب الحياة قبل هيكل بنفس الفترة الزمنية، لم تُعرف بينهما صداقة، بل كان مصطفى وعلى أمين وكامل الشناوى ومحمدالتابعى وأنيس منصور ومصطفى محمود هم الأقرب لعبدالوهاب، والأسماء كلها ستجدها على خريطة هيكل، إلا أن للتابعى حضوره الخاص للاثنين، فهو الأستاذ الأول لهيكل ولهذا أوصى نقابة الصحفيين بتقديم جائزة مقدارها 100 ألف جنيه سنويا تحمل اسم التابعى الذي لا ننسى أفضاله على تطور لغة الكتابة الصحفية، بينما التابعى برغم اقترابه من عبدالوهاب إلا أنه بين الحين والآخر كثيرا ما تناوله سلبا في العديد من المقالات وأشهرها ((الأسطى والأستاذ)) والتى كان يتهم في سطورها عبدالوهاب الأستاذ بالاستعانة من الباطن بالملحن رؤوف ذهنى وأطلق عليه لقب الأسطى.

ربما الفارق في أن هيكل لم يتهم أبدا بالسرقة الأدبية بينما مثلا كاتب هذه السطور نشر تحقيقا قبل 30 عاما عن سرقات عبدالوهاب الموسيقية عنوانه ((أنا والعذاب وعبدالوهاب)) في مجلة مصرية سودانية ((الوادى)) كانت تُصدرها مؤسسة روزاليوسف برئاسة تحرير هبة عنايت، ومدير التحرير عادل حمودة، وحرصت في التحقيق على أن أذكر بالضبط الوقائع وكيف استفاد عبدالوهاب من عدد من الموسيقيين أمثال محمد الموجى ومحمود الشريف وكمال الطويل ورؤوف ذهنى وحتى عازف الأكورديون مختار السيد، الذي كان قد وزع موسيقيا السلام الوطنى بلادى بلادى من ألحان سيد درويش، بينما حرص أنور السادات على أن يستقبل في المطار محمد عبدالوهاب وهو يرتدى زى اللواء بعد عودته من ((كامب ديفيد)) وكان يقود الفرقة الموسيقية العسكرية، وكأنه موزع النشيد، وهو موقف كما ترى يشبه ملامح السادات الذي كان مولعا بالجانب الشكلى الاحتفالى، ولم أتوقف عند تلك الحدود بل ذكرت صراحة أن محمد الموجى لحن لعبدالوهاب أغنيتى ((حبيبى لعبته)) و((أحبك وأنت هاجرنى))، بينما يذكر رؤوف ذهنى أنه لحن له ((قابلته ياريت ما قابلته)) ويؤكد الشاعر مأمون الشناوى، واضع كلمات الأغنية، أن اللحن لرؤوف، كما يُظهر رؤوف شيكا عليه توقيع عبدالوهاب مقابل اشتراكه في تلحين ((فكرونى)) من الباطن لعبدالوهاب، و5 آلاف جنيه في نهاية الستينيات كان يعد بمثابة ثروة طائلة، أساتذة في الموسيقى يعددون سرقات عبدالوهاب من الموسيقى العالمية وهو على الجانب الآخر لا ينفى ذلك ولكنه يعتبر نفسه مثل المتذوق يستفيد من الأدب العالمى لكنه ينفث فيه من روحه الشرقية وغيرها وغيرها،، ويمر زمن وأكتشف بحياد حتى مع يقينى بصدق ما يقولونه أن هذه الألحان وغيرها لها طعم وهابى، ربما كان ما فعله هؤلاء أنهم قدموا مادة خام للأستاذ ولكن المذاق الوهابى طاغ.

لديكم أيضا محمد حسنين هيكل يهاجم بضراوة من كل الأجيال ومن الممكن أن تلمح في كتاباته وأحاديثه جنوحا في الخيال، لتقديم المعلومة في قالب شيق، ربما ليست بالضبط الحقيقة وهو ما كان يفعله مصطفى أمين إلا أن هيكل كان حريصا على أن يمنح منطقا للخيال، بناء الحكاية عند هيكل يبدو أشد تماسكا. ويبقى أن هيكل وعبدالوهاب سيظلان مؤثرين حتى بعد الرحيل، عبدالوهاب مثلا صار عيد ميلاده 13 مارس هو موعد لعيد الفن في مصر بعد عودته في عهد الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، وكان مبارك قد ألغاه، بينما هيكل أطلقت نقابة الصحفيين اسمه على أكبر قاعة، وأتصور بعد رحيله أن الورثة سيحرصون على أن يخلدوا اسمه بجائزة أيضا باسمه هي الأكبر في تاريخ الصحافة المصرية. لم يسع كل منهما لكى يحظى بلقب أستاذ الأجيال أو موسيقار الأجيال، ولكن الأجيال على تعاقبها هي التي منحتهما اللقب وعن جدارة، ومع الزمن لن تتوقف الهجمات التي تحاول النيل منهما، ولن تتوقف أيضا مقالات المديح التي تضبط الصورة، نعم هناك توجه للتقديس يقابله كرد فعل مضاد له في الاتجاه ومساو له في القوة بالتدنيس، ومع الأسف هذا هو حالنا التطرف والجنوح حتى مع من ساهموا في رسم ملامح الشخصية المصرية موسيقيا وصحفيا!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com