في مديح «الحمار الأسود»

جمال الجمل الأحد 28-02-2016 23:26

(1)

في خريف 1997 كان بطرس غالي في فرنسا، بالتحديد في 19 نوفمبر.. ذكرى مرور 20 عاما على زيارة السادات للقدس، والتي تعتبر نقلة مهمة في مسيرة غالي السياسية، إذا استقال وزير الخارجية إسماعيل فهمي احتجاجا على الزيارة، واتصل حسني مبارك وكان يومها نائبا للرئيس بالسفير محمد رياض نائب وزير الخارجية، وسأله باقتضاب: جاهز للسفر مع الرئيس إلى القدس؟

رد رياض: لأ.. مش جاهز!

كان مبارك متوجسا من موقف السفير، ويتوقع أن يكون على نهج وزيره، بينما كان السفير يقصد أن أوراق السفر الخاصة به غير جاهزة، وهكذا أدى الالتباس إلى فراغ في التمثيل الدبلوماسي لوزارة الخارجية، فقال السادات: هاتوا غالي.. بلغوه يستعد.

وكانت هذه الزيارة أكبر نقلة في علاقة غالي بالرئيس السادات، والتقرب منه.

جلس غالي في ذكرى ذلك اليوم الذي سافر فيه لأول مرة على طائرة الرئيس، وبدأ يسترجع اللحظة التي يعتبرها الحدث الأهم في حياته السياسية والدبلوماسية.

(2)

قال غالى في مذكراته: اليوم سأخشع وأصلى من أجل السادات الذي اغتاله أحد المتعصبين، كما اغتيل جدى عام 1910. السادات مثل موسى، لم يشاهد الأرض الموعودة. لقد توفى قبل استرجاع سيناء، هذه الأرض المقدسة التي دفع جنود مصريون كثر حياتهم ثمنا للدفاع عنها.. لقد تعرفت على أنور السادات في الخمسينيات، في أثناء برنامج إذاعى بمناسبة يوم الأمم المتحدة. كان رفاقه ينظرون إليه حينها على أنه العجلة الاحتياطية في العربة، وكان يحلو للمجتمع الراقى في القاهرة أن يهزأ من الفلاح أنور، وكانوا في الصالونات المخملية يطلقون عليه بسخرية لقب «الحمار الأسود». كان يؤخذ عليه مزاجه المتقلب، و«وصوليته».. فهو حينا مع الإخوان المسلمين، حينا آخر مع الماسونيين، أو حتى مؤيد للفكر النازى، لكنه مع ذلك، كان الأكثر ثقافة ضمن المجموعة العسكرية التي قامت بـ«الانقلاب» في يوليو عام 1952، هو الذي كان يحب أن يحيط نفسه بالفنانين والمثقفين والصحفيين.

(3)

لا أدرى هل توصيف ثورة يوليو بأنها «انقلاب» تعبير مقصود من غالى؟، أم أنها مجرد خطأ في الترجمة، أم ترجع إلى رؤية الكاتب الأمريكي شارلي هيل الذي صاغ المذكرات؟، لكن في كل الأحوال يتحمل غالى هذا التوصيف مادام لم يصححه أو يوضحه بعد ذلك، ونعود إلى حديثه عن السادات الذي يقول فيه: لم يتم اكتشاف هذا الرجل على حقيقته إلا بعد زيارته للقدس، يومها ولد رجل جديد، نجم جديد، مشى نحو الهدف الذي حدده، دون أن يساوره أدنى شك، أو أدنى تردد، وهو هدف توقيع مبادرة سلام مع إسرائيل.. إنه قائد يستحق لقب قائد السلام، رجل دولة مقتنع بصواب ما يفعل، غير مهتم بإرضاء الجماهير، يرفض الانصياع لديكتاتورية الرأى العام، ويعرف كيف يتخطى تردد أقرب مستشاريه (يقصد استقالة وزيري الخارجية اسماعيل فهمي ثم محمد ابراهيم كامل)، ويجب أن أعترف بأنى كنت من بين مجموعة «الحذرين» التي كانت تخشى فشل مبادرة الرئيس السادات، التي كانت تفكر سرا بالاحتمالات البديلة، إلا أن الفرق بين السياسى ورجل الدولة، هو أن الأول يفكر في الانتخابات المقبلة، بينما الثانى يفكر في الجيل القادم.

(4)

بتوقف غالى عند ما وصفه بالمصير المأساوى المبكر للسادات كبطل أغريقى، فيقول: بالفعل، وباستثناء «عصابة المتملقين» التي كانت تحيط به، التي كانت تلعب دور الكورس في التراجيديا اليونانية، فإن السادات خاض معركته بعزلة تامة، بعد أن نبذه العالم العربى والعالم الإسلامى واتهماه بالخيانة، وتخلت عنه أوروبا، وأدان الاتحاد السوفيتى خطوته.. حتى الولايات المتحدة ترددت في التدخل طيلة الفترة التي سبقت الاجتماع الأول في كامب ديفيد في سبتمبر 1977.. لقد تعرض ذلك الرجل الحر للهجوم من أصدقائه ومن أعدائه، في الوقت نفسه... لقد رأيته في أوقات غضبه، يتكلم بصوت عال، وكأنه يخاطب جمهورا كبيرا، كما رأيته في أوقات انشراحه، وهو يهنيء نفسه ويهنئ المحيطين به مرددا: برافو، برافو..، رغم أنه كان وحيداً ومعزولاً، لكنه لم يعط إيحاءً لنا في أي وقت من الأوقات بأنه قد يتراجع، أو يغير وجهته، علما بأن العالم العربى والإسلامى انتظر بحرارة هذا التحول، وظل يتمنى «عودة الابن الضال»، بينما كان السادات يستمد قوته وإصراره من العزلة التي فرضوها عليه، وشعر أنه أكثر تخففاً، وأكثرا تصديقا للفكرة التي كان دائما يكررها، وهي يقينه بأنه سوف يحصل على الانسحاب الإسرائيلى من كامل الأراضى المصرية، وفى مرحلة لاحقة سيحصل على الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية المحتلة..!!!!

(5)

في أمسية الذكريات والحنين اللطيف، رأى غالي أن كل شئ في السادات عظيم ورائع، حتى التصرفات التي كان غيره يعتبرها من المساوئ التي يصعب الدفاع عنها، رآها غالى مميزات إذ يقول: كان السادات معجبا بالحضارة الغربية، ويحبها بدرجة كبيرة، وكان- مثل مفكرى النهضة في مطلع القرن العشرين، يؤمن أن مستقبل مصر يمر عبر الشراكة مع الغرب، لذلك عرف كيف يحوز محبة الشعوب الغربية.. كان لديه شغف تجاه الفنانين الأمريكيين والأوروبيين، وتجاه الكتاب، وتجاه ممثلى الأرستقراطية القديمة، لكنه على الرغم من عشقه لـ«بلاد بره» كان في العمق ابن موظف مصرى، فخورا بجذوره، وبقريته «ميت أبوالكوم». كان يحب أن يلبس «جلابية» الفلاحين، كما كان ينجذب إلى بدلات كبار المصممين، والقمصان ذات الياقة المُنَشَّاة، ليثبت بذلك أنه نجح في تحقيق هذا المزيج السحرى بين العالم الإسلامى والعالم الغربى..!

(6)

لم أغير التعبيرات التي وردت في مذكرات غالي، مثل «بلاد بره» و«عودة الابن الضال»، وعبارته التي اختتم بها الحدث عن هذه اللحظة، والتي قال فيها: سيسجل التاريخ أن هذه الزيارة الاستثنائية هي من المحطات البارزة في القرن العشرين.، لكنه بعد صفحات قليلة يحكي أنه في ذكرى رحيل السادات، ذهب ليسجل حلقة تليفزيونية في منتصف أكتوبر 1998، مع المذيع الفرنسى بول آمار، وهو من أصل جزائرى، ويمت بصلة قرابة للمغنى الشهير انريكو ماسياس، وعندما وصل الحديث إلى حادث اغتيال السادات سالت الدموع من عينى غالى، وكتب في مذكراته: حين يأتى موضوع اغتيال السادات، لا أستطيع حبس الدموع التي تسيل من عينى.. إنه التأثر.

ثم يضيف عبارة محيرة يقول فيها: ولكنه الإرهاق أيضا. يجب أن أفكر في التخفف من ضغط العمل.!.. أما الآن (والكلام لغالي) فإننى أرجع سبب الدموع التي سالت من عيني في تلك الحلقة إلى حساسية من المساحيق المستخدمة في عملية المكياج!

(7)

أي التفسيرات صحيح؟

لم يحدث أن سألت غالي هذا السؤال، لكني أسمع صوته يجيب ضاحكاً: كلها صحيحة، وهذه «التركيبة العجيبة» هي أحد الأسرار الجوهرية في شخصية الدكتور بطرس غالي..!

tamahi@hotmail.com