برحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل يرحل عن سماء مهنة الصحافة آخر نجوم الشباك بالمفهوم المطلق والكلاسيكى للتعبير، ونجم الشباك هو صاحب البريق والتفرد والانفراد والتربع على عرش المهنة، تربعا يستمر سنوات طويلة حتى تصبح المسافة بينه وبين أقرانه لا يمكن تداركها أو حتى الاقتراب منها، وهذا النوع من النجومية الذى كان سائدا فى شتى النواحى الفنية والأدبية والرياضية وكل المهن التى تجمع بين الحرفة والموهبة جمعا تاما لا يمكن فصله أو تمييزه، فيكون هناك أم كلثوم وعبدالوهاب ويوسف شاهين ونجيب محفوظ وصالح سليم ومحمد حسنين هيكل، أشخاص ذوو سطوع تام لا يخفت بطول العمر ولا بظهور أجيال أخرى، بالتأكيد هناك الآن مواهب كبيرة وهناك أيضا نجوم كثيرون لكنهم أبدا لن يكونوا نجوما منفردين.. سيمتلئ شباك الحاضر بوجوه تتزاحم ولا يستطيع نجم واحد أن ينفرد بالشباك، لكنه جزء من نغمة فى أوركسترا ضخم.
ليس لك الآن أن تطالع هذا النوع من النجوم، انتهى ذلك العصر وبدأنا عصر البطولات الجماعية، عصر المواهب الكثيرة المتراصة دون غلبة لموهبة على أخرى.
حينما مات نجيب محفوظ كان موته علامة ومؤشرا على أن هناك مئات وآلاف الروائيين الكبار سيظهرون، لكن لن تجد الروائى الجالس فى صمت وطمأنينة على عرش الرواية العربية فى ذلك المدى القريب من الزمن الآتى.
ويأتى موت الأستاذ محمد حسنين هيكل ليؤكد الفكرة، لن يصل إلى مكانة ذلك الرجل المهنية أحد، بغض النظر عن كل الآراء التى تطرح حول الرجل، ومن الطبيعى لرجل مثل الأستاذ هيكل بعد كل هذه الرحلة الطويلة والعمر المهنى المديد الناجح أن تقع الناس حوله فى خلاف، فيحبه من يحبه بدرجة العشق ويخالفه من يخالفه إلى درجة العداء، لكن يظل فى النهاية إجماع تام على حجم تلك الموهبة وقيمة صاحبها المهنية وتأثير محمد حسنين هيكل فى مهنة الصحافة وعليها، كيف استطاع أن يرقى بمهنته حتى يكون رجلا ذا تأثير وقوة لا تقل عن قوة وتأثير الحاكم المسيطر على البلاد، هذا الرجل الرشيق منتصب القامة بجسد رياضى مفرود الظهر حتى آخر لحظة، المعتز بنفسه وتاريخه فى بساطة والممسك بقلمه الرصاص فى يده عند كل حوار وهو يحرك يديه ويحاول أن ينظم خيوط أفكاره المتلاحقة المزدحمة وكأنها خيوط ضوئية متشابكة ومتقاطعة وهو يجاهد ليرتبها ويخلق لها السياق بحنكة وبراعة ويرتبها ترتيبا مطعما بالثقافة والشعر والفن والحس الراقى ليصل إلى نتيجة واضحة وتحليل مختلف.
ورغم أن المعارك والمواقف السياسية واختلاف نوعية الرجل الجالس على كرسى الحكم فى مصر كلها عوامل كفيلة بإزاحة الرجل عن شباك النجومية لكنه ظل فى مكانه ومكانته، والعجيب أنه احتفظ بتلك النجومية وهو فى منزله غير متسلح بمكتب فى جريدة كبرى ولا مؤسسة إعلامية (بعد أن ترك الأهرام)، ولكنه يملك من القدرة والموهبة والثقة ما يجعله يكمل المشوار بلا اهتزاز أو وجل.
يظل الأستاذ هيكل- فى اعتقادى- مكمن قوته فى خياله، فهو ليس فقط الصحفى وكاتب المقال والمؤرخ والمحلل السياسى المحترف الأول فى بلاد العرب لعمق ثقافة ولا لقوة موهبة فقط، ولكن لقوة الخيال أيضا، هذا الرجل يملك خيالا يؤهله لكتابة روايات عظيمة- ربما كتب روايات ولم ينشرها.
وقوة الخيال عادة تأتى على قدر قوة الحلم، فلا يملك الخيال القوى أبدا شخص لا يصدق أحلامه ويصدق أيضا أنه ند لها. الكاتب محمد حسنين هيكل كان ندا لكل من قابلهم، كان ندا للملوك والرؤساء والوزراء وآيات الله فى إيران، كان يعلم أنه يملك السر فإن كانوا يملكون السلطة والحكم فهو يملك قلمه الرصاص ويعتز به ويدرك خطورته، يعرف ثمن هذا القلم جيدا فيكون لكل كلمة يكتبها هيكل الثمن الأعلى فى وقته، ولا تخلو مكتبة فى أى بيت مصرى من كتاب أو كتابين لذلك الرجل المؤثر، الرجل النجم، نجم حقيقى لم يخفت ضوؤه المهنى لأكثر من سبعين عاما.
يكفى أن الرجل استطاع أن يقنع الكثيرين وهو على مشارف الرابعة والتسعين من عمره أنه يملك رؤية لمستقبل مصر، وأن يقدم برنامجا تليفزيونيا عن ذلك المستقبل بذاكرة قوية وشياكة بادية ووسامة زادها العمر جمالا ولغة سليمة، بإمكانك أن ترفض أو تقبل مواقفه السياسية وأن تختلف وتنتقد وتعترض كما تريد عبر مسيرة الرجل الطويلة، وبإمكانك أن تتهم وتعاتب وتلقى باللوم وتشعر معه بالحب أو الخذلان، كل حسب رأيه وذوقه وهواه، لكن سيظل محمد حسنين هيكل هو ذلك النجم المنفرد فى شباك مهنة الصحافة،ً.