خطاب الرئيس الأربعاء الماضى أيَّده كثيرون وصدم كثيرين، وأثار فى نفس الوقت مشكلات كثيرة فى الشكل والمضمون، دون أن تبدو هناك أى نية لمراجعتها.
والحقيقة أن مشكلة الارتجال السياسى ليست فقط فى الخطابة إنما صارت «أسلوب حياة» أو طريقة نظام، فغياب المستشارين السياسيين وهيمنة الأجهزة الأمنية، وضعف الأحزاب والبرلمان، وحصار المبادرات الأهلية المستقلة، كل ذلك جعل ارتجال الرئيس وخروجه عن النص المكتوب مجرد مظهر لارتجال سياسى أعمق.
فهناك من اعتبر الخطاب بداية النهاية وشبَّه جملة: «انتو مين؟» بانفعالات الرئيس السادات فى 5 سبتمبر 1981، أو بما ردده القذافى فى جملته الشهيرة: «من أنتم؟». هناك تيار واسع آخر اعتبر أن ما جرى على أسوأ تقدير زلات لسان، واعتبر أن كلام الرئيس وصل لقلوب وعقول ملايين المصريين الذين تفاعلوا إيجاباً مع خطابه وتبرعوا لمصر بأكثر من جنيه.
ومع ذلك بقى هناك تيار واسع (فى تزايد مستمر) انتقد الخطاب وهو ينطلق من رغبة حقيقية فى إصلاح الوضع القادم، واعتبر أن معضلة الخطاب أو مشاكله جاءت فى ثلاث محطات أساسية: الأولى فى الجملة التى ذكر فيها «لو ينفع إنى أبيع نفسى من أجل مصر»، وهى فى الحقيقة جملة ارتجالية أضرت ضرراً كبيراً بصورة الرجل داخل مصر وخارجها، ومهما قيل إن المقصود هو التضحية من أجل الوطن فإنه لا يوجد سبب منطقى يحول دون أن يقول الرئيس هذا المعنى مباشرة.
أما المحطة الثانية فهى التى قال فيها «اسمعوا كلامى أنا بس»، صحيح أنه اشتكى من فوضى الإعلام ومن غياب المهنية والمعرفة فى الحديث عن أى ملف، إلا أن الرئيس كان فى يده السلطة التنفيذية والتشريعية لأكثر من عام، ومع ذلك لم يحاول أن ينظم الإعلام بقانون أو مبادرة واحدة، وأن ترديد جملة من هذا النوع ولو بحسن نية قادر على أن يقضى على فكرة النقد والنقاش العام من أساسها، وهى الضمانة الأساسية لنجاح أى نظام، فى حين أنها لا تواجه كما نرى فواصل الردح والشتائم والتجهيل المستمر، لأن الصوت الواحد لا يقلق من الشتامين والسفهاء لأنهم لا يعرفون من الأصل أن يناقشوا أحداً، فى حين أن الصوت الواحد سيقلقه وجود نقد ونقاش عام حول كل شىء من دراسة الجدوى للمشاريع الاقتصادية حتى التنمية السياسية، وهى أمور فى حال حدوثها ستكون فى صالح المسار السياسى الحالى.
أما المحطة الثالثة فهى الحديث المتكرر للرئيس عن الديمقراطية المؤجلة، وبأن موضوع الديمقراطية «لسه بدرى» أو كما قال فى حديث آخر إننا نحتاج إلى 25 عاماً لنبنى ديمقراطية فى مصر. والحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة فى المضمون والصياغة، فأولاً هناك علم اسمه التحول أو الانتقال الديمقراطى، وشهدت دول كثيرة هذه المراحل كما فى أوروبا الشرقية (حوالى 10 سنوات) وفى بعض بلدان أمريكا الجنوبية 20 عاماً، وفى بلاد أخرى فشل التحول الديمقراطى لأنه فشل فى إصلاح مؤسسات الدولة، لا هدمها، فيما عرف بالإصلاح المؤسسى وهو ما لم نقدم عليه فى مصر حتى الآن.
ليس مطلوباً أن يردد الرئيس الجملة المباركية الخالدة «نحن غير مؤهلين للديمقراطية»، إنما عليه أن يبدأ عملية تحول ديمقراطى، وأن استحقاقات هذه العملية من إصلاحات ستقوم بها الدولة فى المجال الاقتصادى والإدارى كما فى المجال السياسى لا أن نقول «لسنا مهيئين للديمقراطية»، ونتناسى استحقاقات التحول الديمقراطى فى الإصلاح.
الارتجال السياسى لم يكن فقط مجرد خطاب أو كلمات عابرة إنما هو خط عام سندفع جميعاً ثمن استمراره بأسرع مما يتصور الكثيرون.