القيادي الإخواني هيثم أبوخليل يكشف عن وثيقة ‏عمرها ٢٥ عاماً لإصلاح «الجماعة»‏

كتب: اخبار الخميس 05-08-2010 13:10

لا تُخفى جماعة الإخوان المسلمين سعيها لتغيير ‏المجتمع، وتضغط مع باقى القوى السياسية من أجل ‏حراك سياسى واجتماعى يسمح بممارسة اللعبة ‏السياسية ديمقراطيا وتداول السلطة سلميا، ورغم ذلك ‏يأخذ البعض على الجماعة نفسها عدم تطبيق قواعد ‏العمل الديمقراطى داخليا، ولا تقبل النقد حتى إذا أتى ‏هذا النقد من قلب كوادرها، وبكل النوايا الحسنة فى ‏تطوير الجماعة ودفعها للأمام،

وربما يكون أبرز الأمثلة على هذا الوضع فى الوقت ‏الحالى حالة الباحث «هيثم أبوخليل»، وهو كادر ‏إخوانى حتى النخاع، لكنه صاحب رؤية وموقف من ‏ضرورة تحديث الجماعة، وإتاحة حق النقد الذاتى لكل ‏المستويات التنظيمية، ونتيجة تلك المواقف أوقفته ‏الجماعة بقرار إدارى، وتعرض أبوخليل لحملة هجوم ‏ضارية عبر شبكة الإنترنت وصلت إلى حد تخوينه أو ‏نفى كونه من الإخوان أصلا.‏

‏ الباحث والناشط الحقوقى «أبوخليل» اختص ‏‏«المصرى اليوم» بالكشف للمرة الأولى عن وثيقة ‏شديدة الأهمية تلخص وضع الجماعة خلال ربع القرن ‏الأخير، وهى وثيقة مراجعات داخلية كتبها عدد من ‏الإصلاحيين من أعضاء الجماعة منذ ٢٥ عاما بهدف ‏إصلاح بعض الأحوال الداخلية، وقدموها عبر القنوات ‏الشرعية كما تقتضى النظم الداخلية،. «المصرى ‏اليوم» تنشر هذه الدراسة المهمة، التى تلقى ضوءا ‏كاشفا على آليات العمل داخل الجماعة، والأفكار التى ‏يتم تلقينها للكوادر، وطرق تصعيد القيادات، ومبدأ ‏السمع والطاعة، وتفتح الجريدة النقاش حول هذه ‏الأوراق التي ولدت من رحم الجماعة نفسها:‏

كتب هيثم أبوخليل ما يلى: فى صيف عام ١٩٨٦ ‏قدمت مجموعة رائعة من قيادات وكوادر جماعة ‏الإخوان المسلمين، الذين دُرج على تسميتهم ‏الإصلاحيين، مجموعة من الأوراق لتطوير الجماعة، ‏وذلك عبر القنوات الشرعية التى يتحجج القائمون على ‏الجماعة دائما بعدم النظر فى أى ورقة تطوير إلا عن ‏طريقها، والمدهش أن قيادة الجماعة لم تحاول النظر ‏باهتمام إلى هذه المراجعات الفكرية المفصلية، ‏ومراجعات أخرى استراتيجية، بل مازال العمل يدار ‏بطريقة تقليدية، والفعل يحدث دائما عن طريق رد ‏الفعل كمنهج متبع دون أى تصورات أخرى لتطوير ‏الجماعة وعملها.‏

واليوم، وبعد ربع قرن من تقديم هذه الأوراق ‏للقيادات، أعتقد أن القارئ العادى غير المتخصص فى ‏شأن الإخوان سيجد حيرة وربما لا يصدق أن هذه ‏الأوراق قُدمت منذ ذلك الزمن وليس منذ أيام قليلة.‏


الأكثر من ذلك، أن مسلسل ملاحقة من ينادون بالتغيير ‏والتطوير بهمة عالية مازال مستمرا، وربما كان يمكن ‏للجماعة مع قليل من هذا التطوير أن تحقق شيئا ‏ملموسا بعد هذا التاريخ الطويل، لكنها آفة الكثير من ‏التنظيمات السرية التى تجد أن انكفاءها على حلقتها ‏الداخلية من الأفراد هو سر قوتها، فى حين أن الزمن ‏والتاريخ لا يرحم ولن يرحم جماعة هى جماعة ‏الفرص الضائعة بامتياز، الأمر الذى أجبر معظم ‏هؤلاء الإصلاحيين على الانسحاب، ولم يتبق منهم إلا ‏عدد قليل للغاية يقاوم الرحيل ظناً منه أن الوجود داخل ‏جماعة لا تقبل التطوير أو ربما تقبله بعد ردح من ‏الزمن أفضل من الوجود فى الشارع.‏

بداية أريد أن أؤكد أننى تجرأت على طرح هذه ‏الأوراق إعلامياً لأننى أيقنت بوهم القنوات الشرعية، ‏التى تُستدعى مثل الإسبرين لتسكين صداع التطوير ‏والتغيير، فيكون مصير ما يُنقل عبرها سلة المهملات ‏مثل الورقات التى بين أيديكم، ولأنى أيقنت بأن ‏الشفافية هى الحل لتوعية الصف الإخوانى خاصة، ‏والجمهور عامة، للضغط من أجل التغيير داخل ‏وخارج الجماعة التى نعول عليها كثيراً فى التغيير ‏والإصلاح فى بلادنا، بل وإحراج أصحاب ‏الممارسات الخاطئة الذين يتخيلون أنهم أوصياء ‏عليها، ولكنهم للأسف لا يعلمون أنهم مثل الدبة التى ‏قتلت صاحبها، وأن الزمن تغير، وأن ما كان يصلح ‏أمس لا يصلح اليوم، وما يصلح اليوم لا ينفع غداً.‏

وأريد أن تجهد القيادة الحالية للجماعة نفسها بالنظر ‏فى هذه الورقات القديمة وتحاول الاستفادة منها بدلا ‏من الحل السهل بالمزايدة على ناقلها وتلقين الصف ‏بأنه أصبح مارقاً بين ليلة وضحاها بعد أكثر من ٢٠ ‏عاما قضاها داخل جماعة الإخوان، وأطمئنهم بأننى ‏لن أكون مثل أصحاب هذه الأوراق ولن أجعل اليأس ‏والتضييق والهجوم ينال من عزيمتى فأنسحب نافذاً ‏بجلدى.. فجماعة الإخوان لا تمثل بالنسبة لى ترفاً أو ‏شيئاً كمالياً يمكن الاستغناء عنه ولكنها أمل لتحقيق ‏مشروع حضارى كبير للأمة بأسرها.. فأنا إخوان ‏وسأظل إخواناً.‏

حملت أوراق التطوير عنوان «أزمة التنظيم تربوياً ‏وإدارياً»، وهى الأوراق التى تشى بتأثر كاتبيها ‏بكتابات الدكتور «خالص جلبى» وكتابه المهم ‏‏«ضرورة النقد الذاتى للحركة الإسلامية»، الذى صدر ‏قبل هذه المراجعات بسنوات قليلة، وكذلك بكتابات ‏الدكتور «عبدالله النفيسى» ومنها كتابه «الحركة ‏الإسلامية.. رؤية مستقبلية».‏

بدأ مؤلفو هذه المراجعات بتمهيد للحديث عن أزمة ‏التنظيم عموماً: «إننا نجد أنفسنا أمام ميراث ضخم من ‏الثبات والديمومة والجمود على مستوى الفكر والطرح ‏والهياكل التنظيمية، ويمتد الأمر بالبعض فيجعلون هذا ‏الميراث جزءاً لا يتجزأ من التراث الإسلامى نفسه، ‏وبالتالى فهو مقدس وغير قابل للنقد والدراسة، لقد ‏وصل إلينا التنظيم صفوياً قائماً على انتقاء نوعية ‏معينة من الناس لتمر عبر حلقات من التربية والتشكيل ‏بمعزل عن حركة المجتمع وتأثيراته إلى حد كبير، ‏وهذا جعل التنظيم هلامياً غير محدد الملامح وليس له ‏دور فى مستوى ومجال العمل المطلوب،

ولذلك افتقد للدور وتحول إلى وعاء نحاول بداخله ‏تعبئة الجماهير بدلاً من أن يكون الأداة التى تنظم ‏الجماهير وتقودها إلى إحداث التغيير المطلوب ‏والممكن، وبذلك لم يصبح التنظيم مجرد وسيلة من ‏وسائل متعددة بل تضخم دوره وهيكله ومجالات ‏عمله، وأصبح هناك فكر التنظيم وثقافة التنظيم.. إلخ، ‏وأصبح من المتصور أنه يمكن تحويل المجتمع إلى ‏مساحة تنظيمية وبالتالى يسهل قيادتها وتوجيهها، ‏وكأن قيادة أمة ومجتمع مثل قيادة تنظيم، وهذا تصور ‏غير مقبول وتبسيط مخل للمسألة، وتحول التنظيم من ‏وسيلة لحفظ الذات من الذوبان وأداة لتغيير المجتمع ‏إلى مجتمع مصغر يحاول جاهداً ابتلاع المجتمع ‏الكبير الذى نشأ فيه، وتعامل التنظيم بنفس المنطق مع ‏الآخر غير الإسلامى إذ رأى فيه صيداً يسهل ويحسن ‏افتراسه ولم يفسح له مجالاً للعمل»، وتأتى هذه ‏المقدمة وكأن كاتب الأوراق ينظر لحال الجماعة ‏اليوم.‏


وتتناول هذه الأوراق معضلة أزلية لم تحاول أو تسعى ‏قيادة الإخوان لحلها خلال العقود الأخيرة، وهى حسم ‏موضوع السرية أو العلنية والبحث عن شرعية ‏للجماعة، فتقول: «نقطة أخرى يجدر تأملها وهى ‏الازدواجية بين السرية والعلنية، فالتنظيم كان بصورة ‏عامة معلناً حتى سنة ١٩٤٠ وبعد تشكيل النظام ‏الخاص لظروف تاريخية معروفة غلب الطابع السرى ‏على الحركة خاصة الخمسينيات والستينيات، ومنذ ‏خروج الإخوان من السجون والتنظيم يعانى من ‏ازدواجية بين سرية بلا معنى وعلنية المخبر السرى، ‏وفوّتت هذه الوضعية مميزات السرية والعلنية معاً بل ‏إن سلبيات السرية هدمت أحياناً مكاسب العلنية، ‏وستبقى المشكلة كامنة فى صفحات المستقبل متمثلة ‏فى تغلب إحدى الشخصيتين، فهل تتغلب الشخصية ‏السرية الطارئة على الشخصية العلنية الأصيلة؟

ولعلنا نذكر للأمانة أن هذه الازدواجية ليست عيباً ‏اختصت به الحركة الإسلامية دون غيرها، بل هى ‏صفة ملازمة لأفكار وحركة المجتمع فى العالم الثالث ‏ألا وهى الميل للتلفيق والحذر من الحسم والاختيار ‏والتمييز على مستوى الأفكار ونظام الحكم والاقتصاد ‏والقيم الاجتماعية، ونظن أن شيئاً ما حدث فى تاريخنا ‏أورثنا هذا الخلل، وخطورة السرية أيضاً أنها تكون ‏مبرراً للاستبداد بالرأى والانفراد باتخاذ القرار تحت ‏دعوى أن القيادة تعرف أكثر فيتحول التنظيم إلى ‏جهاز تواكلى راكد يورث الاستبداد والخمول والركود ‏وعدم الفاعلية لوجود آراء مختلفة وحلول متعددة ‏وعدم وجود قنوات لتوصيل هذه الآراء والحلول إن ‏وجدت فيشعر الفرد الإخوانى بهامشيته فينسحب، ‏وهكذا أصبحت السرية ملجأ مفتوحاً تلجأ إليه القيادة ‏لتمارس حقها المقدس فى الوصاية على القاعدة».‏

تنقلنا الأوراق إلى نقطة خطيرة وهى أهمية النقد ‏الذاتى للجماعة، الذى يتهم من يقوم به هذه الأيام بأنه ‏مفتون، ضعيف الإيمان، ناقض للبيعة، وفى هذه ‏النقطة تحديداً تحذر الأوراق: «ذلك هو التداخل ‏المغلوط بين الدين والتنظيم كجهد بشرى قائم على ‏أساس تعاقدى وعلى شروط ينتقض العقد بانتقاضها، ‏وبين الدين باعتباره الإطار المرجعى الذى ترد إليه ‏الأمور ولا سبيل للاعتراض أو الاجتهاد مع نصوصه ‏القاطعة، وهذا التداخل ناتج عن أخطاء فى المفاهيم ‏المتعلقة بالإسلام والأزمة وطبيعتها والتنظيم نفسه ‏ودوره، ويؤدى هذا التداخل إلى إعاقة التنظيم وحركته ‏بمصادرته للاجتهاد والتفكير المستقل وتبادل البذل،

وانظر (سعيد حوى) فى كتابه (من أجل خطوة إلى ‏الأمام) حيث يقول: (لقد رأيت أناساً يزعمون أن ‏التنظيم إذا قال لا يحتاج لدليل شرعى وهذا نوع من ‏إعطاء العصمة لمن لا يملكها وطريق للاستبداد ‏وتعطيل النصوص.. لقد رأيت أناساً يجعلون الفريضة ‏محرمة باسم التنظيم، نحن لا نعطى للجماعة فى العمل ‏الإسلامى عصمة، ولا نعطى لقيادة أى فرد عصمة، ‏ويخطئ من يقول إذا قالت الجماعة شيئاً أو قال التنظيم ‏شيئاً فإننا لا نبحث عن دليل فهذا نوع من البابوية ‏والإمامية، ولقد رأينا نتيجة لذلك أن بعض المنتسبين ‏لتنظيمات تظن فيهم روح قتلة الحسين منهم من ‏يرتكبون أبشع أنواع الظلم باسم الإسلام وهم مرتاحو ‏الضمير، ورأينا بعض القيادات تخدع أتباعها فتصدر ‏حكماً خاطئاً، ورأينا بعض القياديين تغلبهم الأهواء، ‏ورأينا قيادات تكذب، ورأينا قيادات تستعمل خداع ‏الشعارات فمثلاً البيعة فى الاصطلاح الفقهى غير ‏البيعة فى اصطلاح العمل الإسلامى، ولقد رأينا من ‏يحاول أن يخدع السذج فيعطى البيعة التى تُعطى ‏لبعض أمراء الجماعة الإسلامية مضمون البيعة التى ‏وردت فى الأحاديث النبوية، ورأينا قيادات تعامل ‏المختلفين معها على أنهم خوارج).‏

انتهى كلام حوى، وكما قال أحد قيادات الإخوان، ‏رحمه الله، تحت عنوان: (لا عصمة للتنظيم ولا ‏لمؤسساته ولا لأى قيادة غير قيادة الرسل عليهم ‏السلام)، والملاحظ أن هناك حرصاً عجيباً ورعاية ‏مثيرة لإرساء هذا المفهوم وترسيخه وتوريثه عند ‏القاعدة سواء بالخلط فى الممارسة أو الخلط فى ‏الخطاب، أرجع مثلاً إلى كتاب الأستاذ (مصطفى ‏مشهور) بين القيادة والجندية يقول: (على القيادة أن ‏تحرص على توريث الدعوة إلى الأجيال التالية بكل ‏أصالتها وشمولها وخبراتها لضمان مواصلة السير ‏على طريق الدعوة دون انحراف أو تفريط)، قارن بين ‏هذه النظرة ومفهوم الوفاء فيها بنظرة الأستاذ راشد ‏الغنوشى لعملية الوفاء والأصالة حيث يقول: (إن ‏الوفاء للرواد لا يكون بالجثوم على قبورهم وآثارهم ‏ونكررها ونسبح بحمدها، وإنما نطور تلك الجهود ‏ونقوم بنصيبنا فى خدمة الإسلام فإن الزمن فى حركة ‏مستمرة ومتواصلة، وما سبيل لخلود الإسلام إلا بهذا ‏التجديد المستمر)، كما يزيد الأستاذ مصطفى مشهور ‏عندما يقول فى كتابه «بين القيادة والجندية» ص٦٧: ‏‏(ويعلم الفرد أن تعهده وبيعته لقيادة الجماعة إنما هى ‏فى الحقيقة تعهد وبيعة لله يلزمه الوفاء بها وعدم النكث ‏فيها، «إن الذين يبايعونك.. »‏

‏ ويقول فى صفحة ٧٨: (لا تعتبر جماعة تحقق أهدافاً ‏وتنجز أعمالاً إلا إذا كان أفرادها يسمعون ويطيعون ‏لقيادتهم تعبداً وطاعة لله، فإن طاعة الأمير من طاعة ‏الله، والامتناع عن تنفيذ الأوامر أو مجرد التردد فى ‏تنفيذها يعرض العمل للخطر ويعتبر نكثاً للبيعة)، ‏ويذهب الأستاذ مصطفى مشهور لأبعد من ذلك فى ‏تكريس هذا التداخل بتحذيره من إلصاق المحن ‏والابتلاءات بالقيادة، فيقول (ولا يظن أحد أن هذه ‏المحن ضربات قاضية ولكنها صقل وتمحيص ‏للمؤمنين ولا يتطرق لأحد يأس بسبب شدة المحن أو ‏طول إحداها كما لا يتصور أنها نتيجة لأخطاء أو ‏تقصير من القيادة كما يحاول المشككون تصويرها».‏

مما سبق يتضح لنا أن هناك ركاماً مفاهيمياً وتراثاً ‏كاملاً يعتمد هذا الخلط بين الدين والتنظيم وليس هناك ‏لتعمد هذا الخلط وعدم مراجعته إلا أن هذا الخلط ‏يساعد القيادة على إحكام قبضتها على القاعدة ويدفع ‏القاعدة إلى الاستسلام للقيادة بشكل كامل، خاصة أن ‏القيادة فى مثل هذه التنظيمات لا تملك أى سلطات ‏تنفيذية فكان الربط هو اللجام الموضوع فى فم الفرس ‏ليسهل قيادته. وأنا فى الحقيقة لا أفهم كيف ترك ‏منظرو الجماعة وشيوخها آفة الخلط بين الدين ‏والتنظيم طوال هذه السنين دون توضيح وتأصيل إلى ‏أن تحول إلى مرض، وأصبح الخروج عن الجماعة ‏خروجاً عن الدين، ونقد القيادة نقداً للدين؟

وعن الاستدعاء المخل لأمراض القلوب تنقلنا هذه ‏الأوراق إلى إشكالية استخدام الدين فى خدمة تطويع ‏التنظيم: «وتكتمل الحلقة الثلاثية بالتركيز فى التربية ‏والخطاب على أهمية مجاهدة أمراض النفس والقلب ‏من حب الزعامة والجدال والرياء إلى آخره، وبدلاً من ‏أن يقتصر الأمر على التذكير وترك مجال المجاهدة ‏بين الفرد وبين الله عز وجل، بدلاً من ذلك، اقتحم ‏التنظيم هذه العلاقة النشطة والحية فى صدور القاعدة ‏واستحضر هذه الأمور من عالم الغيب إلى عالم ‏الشهادة قسراً، ويظهر هذا الاستحضار بشكل مكثف ‏عندما تتعرض القيادة للنقد أو النصيحة فتقوم القيادة ‏بمواجهة هذه القضايا العقلية والمنطقية المحسوسة ‏التى يسهل الحكم عليها عن طريق الرد بالنصح ‏بإحسان العلاقة بالله ومراعاة الإخلاص ومواجهة ‏أمراض القلوب مما يخنق القضية فى مهدها، فهذه ‏الأمور من أمور الغيب التى يستحيل أن تدخل طرفاً ‏فى قضية تمس أموراً ظاهرة وواضحة يمكن الحكم ‏عليها مثل تقصير القيادة أو أخطاء المسؤول،

ونتيجة لهذه الهجمة المرتدة غير المرئية يلجأ الفرد ‏إلى نفسه وينشغل بمعالجتها وتقويمها والارتقاء بها ‏وهو مجال لا ينقضى وباب مفتوح، فينسى النقد الذى ‏وجهه والقضية التى طرحها وينشغل عنها، هى إذن ‏عملية ضرب تحت الحزام، واستغلال لنقطة ضعف لا ‏تسلم منها نفس بشرية للتخلص من مراقبة القاعدة ‏وحقها فى النقد، وبهذا اكتملت عناصر المثلث التى ‏تحاصر الفرد وتحكمه داخل التنظيم (الدين.. التنظيم.. ‏القلب) ولا سبيل لكسر هذا المثلث إلا عبر تحديد كل ‏ضلع من أضلاعه وهو ما يحتاج لجهد واجتهاد»، ‏ومازلت أذكركم أن هذه الأوراق كُتبت وقُدمت عبر ‏القنوات الرسمية عام ١٩٨٦.‏

عبر أوراق المراجعات، يشخص المؤلفون فى الجزء ‏التالى مشكلة الجانب التربوى فى الجماعة خلال هذه ‏الحقبة تشخيصا بدا فيه توصيف للواقع الموجود ‏وتجلياته والنتائج التى ترتبت عليه، ويقدمون بكل ‏شجاعة وجسارة رؤيتهم فى أمور يعتقد البعض بالخطأ ‏أنها من الثوابت التى لا تتغير، فيذكرون: «من ‏المعروف أن نوعية التربية هى إحدى أطروحات ‏الحركة الإسلامية التى تتحدى بها الواقع وتراهن بها ‏على المستقبل، وللتربية فى الحركة وسائل متعددة ‏يقوم التنظيم نفسه بدور محورى فى صياغتها، بل إن ‏التربية تتم من خلال منظومة التنظيم نفسه، وهذه ‏الصياغة قائمة أساساً على الحشد النفسى العاطفى أكثر ‏من الإقناع والتشرب العقلى، ذلك أن القائمين على ‏التربية هم خطباء بالدرجة الأولى وليسوا من ‏المفكرين الدارسين،

‏ ولذلك جاءت الصياغة عاطفية سرعان ما تذوب ‏وتفقد الكثير من أركانها إذا ابتعدت عن محور التنظيم، ‏وإن كانت قادرة على مواجهة النقد العقلى المنطقى ‏بسبب صياغتها العاطفية الصرفة، وأهم ما تتصف بها ‏هذه الصياغة أنها صياغة تلفيقية فهى تجمع بين ‏مدارس شتى دون رابط محكم، فبرامج التنظيم فى ‏أغلبها امتداد للبرامج والوسائل الصوفية مثل: زيارة ‏المقابر.. قيام الليل الجماعى. . حلقات الأذكار ‏الجماعية.. المعسكرات.. الأسرة.. الكتيبة.. الرحلة.. ‏إلى آخره، وهذا النشاط الروحى بطبيعته الصوفية هو ‏الغالب فيما يدعو إليه التنظيم من قراءات: (الإحياء.. ‏مدارج السالكين.. وغيرها)‏


والمشكلة أن المدرسة الصوفية تقدم نموذجاً حياتياً ‏متكاملاً يصعب تجزئته فهى تجعل من التهذيب ‏والمجاهدة غاية الوجود، وتتهمش أو تكاد تنعدم الأبعاد ‏الأخرى لدور الإنسان فى الحياة من تعمير وتعبيد ‏ومجاهدة لطرح نموذج حضارى متكامل الصياغة لا ‏تنفصل فيه علاقة الإنسان بربه عن علاقاته بالبشر ‏كما هو الحال فى النموذج الصوفى، ويمتد أثر هذه ‏الصياغة إلى العلاقة بين الفرد وقائده داخل التنظيم ‏ونوعية العلاقة بين الفرد والتدين أو التعبد، فالأولى ‏علاقة بين المريد والشيخ، والثانية علاقة تنظيمية ‏مؤطرة (شبه عسكرية) لذلك تجد أن الممارسة ‏الروحية مرتبطة ببرامج التنظيم التعبدية ومواسم ‏العبادة وتقل كلما ابتعدت عن هذه البرامج والمواسم، ‏كما يحدث نتيجة لهذا التداخل فرز خاطئ للأفراد ‏وتصعيد للمسؤولين على أساس عبادى وأخلاقى دون ‏أى مؤهلات عقلية أو قيادية.‏

هذا على مستوى العبادة والتنسك، أما على مستوى ‏الخطاب التنظيمى فتجد الطيف السلفى والمدرسة ‏السلفية فى أكثر صورها تجمداً وتشددا هو الطيف ‏المبهر والغامر، ويتمثل هذا التشدد فى الموقف الفقهى ‏وفى الصبغة الأخلاقية فى التعامل مع المشكلات ‏المختلفة للحياة، ونظرة سريعة على تصنيف المواد ‏التى تدرس نجد أنها:‏


قرآن كريم.. سنة.. حديث.. سيرة.. فقه ودعوة.. تزكية ‏روحية، أين إذن بقية المحاور التى تقوم عليها ‏الشخصية الإسلامية السوية والتى تخدم العقل وتزيده ‏أتساعا وفقهاً من دراسات سياسية وأدبية واجتماعية، ‏لا تجد برامج تخدم هذه المحاور اللهم إلا فى صورة ‏مبتورة عن طريق عدة دورات فى التثقيف السياسى ‏مثلاً وهكذا، وتغيب تماماً الدراسات والمناهج التى ‏تعالج مشاكل الواقع مثل الموقف من الأقباط والقومية ‏والوطنية والتراث والمرأة والتفاوت الطبقى والمشاكل ‏الاقتصادية وتجارب التغيير والثورة فى التاريخ القديم ‏والمعاصر، ومن هنا يمكن القول إن محتوى البرامج ‏تجريدى يختزل القضايا ويبسطها تبسيطاً مخلاً ‏ويصنع طوباويات روحية وصوفية يعيش بداخلها فى ‏راحة من الإجهاد الذهنى الذى يعيشه العقل فى التعامل ‏مع الواقع والحياة.‏

لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الصياغة تشجع الانعزال ‏عن المجتمع.‏

إن الواقع الذى نراه كما يقول «خالص جلبى» فيه ‏تشكيلات كبيرة من الإسلاميين الذين تخلصوا من ‏الأمية الثقافية الإسلامية وهو أمر حسن من جانب، ‏ولكنه فى منتهى السوء من جانب آخر إذا دخل فى ‏روعنا أننا بأمثال هذه الكوادر يمكننا إقامة مجتمع ‏إسلامى.. وحكم إسلامى، إذن لابد أن نلقى الضوء ‏على ثلاث نقاط:‏


‏(١) العمل الفكرى فى الأسرة الإخوانية


‏(٢) جو التطور للجلسة والفرد


‏(٣) ساعات العمل المبذولة


لو بدأنا بساعات العمل المبذولة بعد حذف الأعذار ‏والمعوقات نجد أنها تصل إلى ١٠٠ ساعة سنوياً أى ‏‏٤٠٠ إلى ٥٠٠ ساعة فى خمس سنوات، فهل هذا ‏القدر يكفى لتخريج مثقف دسم وأبسط حلقة لدارس ‏متخصص فى علم واحد تصل لأضعاف هذا الرقم، أما ‏عن جو الجلسة فهو كما هو رغم تنوع أفراد الجلسة ‏فى المستوى الثقافى والفكرى رغم تقدمهم المفترض ‏من مرحلة إلى مرحلة، فالجو واحد فى كل المراحل ‏قائم على النقل والتلقين، ولذلك يتصف التثقيف ‏الإسلامى بخاصيتين هما الضعف وعدم النمو، وتبقى ‏مادة الجلسة وهى ثابتة لا تتغير: آية وحديث، وحادث ‏وسيرة، وهذا يجعلنا نقول إنه لابد من تثوير فى كمية ‏ونوعية المادة.‏

إن أسلوب المدارسة داخل الأسرة الإخوانية يفتقد إلى ‏تنمية القدرة على التلخيص والتركيز والفهم والتوصيل ‏بل ربما تكرر المنهج عدة مرات مع شخص والنتيجة ‏هى استحالة الوصول إلى الشخصية المطلوب تكوينها ‏عبر هذه الخطوط المتخلفة أساساً والناقصة موضوعاً ‏والقصيرة وقتاً.‏

وبمراجعة رسائل الإمام المؤسس البنا نجد أن نظام ‏الأسرة تقلص وانكمش عما كان عليه فى أيامه وعما ‏هو مفترض وإن كان لنا ملاحظة أخيرة على التربية ‏التنظيمية فهى عن دور الوسائل الأخرى للتربية مثل ‏الرحلة والمعسكر والدورة والكتيبة، ودور هذه ‏الوسائل أنجح بكثير إذا أمكن تطويرها بحيث تصبح ‏بعيدة عن الروتين والتقليد، ورغم ذلك تبقى الأسرة ‏هى الوسيلة الرئيسية لتكوين وتشكيل العقلية والثقافة ‏الإسلامية وتبقى لها أهميتها وضرورة مراجعة أسلوب ‏إدارتها وفقراتها وإلا فإن كل الوسائل الأخرى تصب ‏فى المجرى الذى تنحته الأسرة فى عقلية الفرد.‏

ولابد أن نسعى ونتلمس دوراً للعلماء والمفكرين ‏المعاصرين فى تطوير الشخصية الإسلامية وكيفية ‏صقلها منهجياً وتربوياً، وعودة الذاتية الداخلية للإسلام ‏بأساليب الدعوة الفردية وخلق تيار فكرى يؤمن بأن ‏التميز لا يكون بالانفصال عن الواقع».‏

أختم هذه الحلقة وكلى دهشة على بقاء الحال كما هو ‏عليه منذ ربع قرن، قد يحدث تغيير فى الشكل يمكن ‏أن يخدع البعض، لكن المضمون فى جانب التربية لم ‏يتغير بدليل أن المناهج ومن يدرسها لم تغير الجماعة ‏وتحدث فيها نقلة أو ثورة يمكن أن نتحدث عنها.‏