لا أعرف تحديداً ما هى الترجمة العربية لكلمتى Vital Signs التى تجدها فى كل المنشآت الصحية، وربما كانت حرفياً تعنى المؤشرات أو العلامات الحيوية، وهى فى كل الأحوال، وأياً كانت الترجمة، ثلاثة أمور يجرى تقريرها قبل مقابلة الطبيب، أو القيام بتحليل أو اختبار، أو عملية جراحية بالطبع. هذه الأمور الحيوية ثلاثة: الوزن، والحرارة، وضغط الدم. كل منها يعبر عن مدى ثبات، أو اتزان، أو توازن الوظائف الحيوية فى الجسم الإنسانى. هى علامات كاشفة عما هو أكبر، وموحية بكل ما هو أخطر، لو خرجت عن المنظومة الطبيعية للجسد، هى فى النهاية أولى علامات الإنذار، وهى بعد ذلك تكون أولى إشارات الشفاء أو العودة لما هو معتاد.
الوزن يعبر عن علاقة مع الطول، أو المساحة البشرية من ناحية، والعلاقة من ناحية أخرى بين الخارج والوارد إلى جسم الإنسان، فإذا ما كان هناك فائض تحول إلى شحم، أما إذا كان هناك تراجع حاد فهى إشارة إلى حالة من التآكل الذاتى التى تأتى من أمراض متعددة. الحرارة تدور حول ٣٧ درجة، فإذا ما ارتفعت اختلت حالة الجسد بالاحتقان، وأنذرت بفيروس أو ميكروب أو عدوى مرضية من نوع أو آخر. ضغط الدم عاكس لأمور كثيرة منها التوتر، والتوازن الغذائى، وحالة المخ والدم.
لست طبيباً، ولا أدَّعى المعرفة بالطب، ولكن ما سبق كان استنتاجاً ناجماً عن العِشْرة فى المستشفيات التى وجدت فيها علامة «الوظائف الحيوية» منتشرة فى كل مكان، ووجدت هناك من يأخذنى طوال الوقت، مهما تعددت المرات، لكى يتأكد من مؤشرات الوزن والحرارة والضغط. ولم يكن ممكناً فى كل هذه المرات إلا أن يأتى إلى الذهن تطبيق هذه المنظومة من العلامات والمؤشرات على المجتمعات البشرية. نحن نعرف أن الجسد الإنسانى منظومة متكاملة، إذا أصيب فيها عضو بمرض تداعت له باقى الأعضاء بـ«السهر والحمى».
المجتمعات والدول والأمم فيها من ذلك، وهذه هى الأخرى تحتاج نوعاً من المراقبة اللصيقة، وقياس الوزن والحرارة والضغط طوال الوقت حتى لا تتعرض لأخطار بالغة. مصر على سبيل المثال تنطبق عليها هذه الملاحظة بشدة، فنظرة على الخريطة- وهى وسيلة قياس- تكشف نحافتها الشديدة حول النيل مع خفة كبيرة على السواحل كلها، وأيضاً على الحدود الجنوبية مع تخمة واضحة فى القاهرة والدلتا. جمال حمدان حذر كثيراً من أن يكون رأس مصر أكبر من جسدها، ونحن نحذر من أن تكون معدتها نتوءاً كبيراً لا تستطيع أقدامها الممتدة إلى دمياط ورشيد حملها.
الحرارة ارتفعت فى مصر بشدة عبر سلسلة من الموجات المتعاقبة، بدأت مع ثورة يناير، ثم ارتفعت مرة أخرى مع استيلاء الإخوان على البرلمان، ومن بعده النجاح فى خداع الجميع والسيطرة على رئاسة الجمهورية، ومن بعدها كانت ثورة أخرى، هذه المرة لم تكن نتائجها سلمية. بلغت درجة الحرارة أقصاها مع تطهير «رابعة»، وما أعقبها من صدامات فى الوادى وفى سيناء. ارتفعت الحرارة بشدة حينما كانت المظاهرات فى الجامعات، تواكب عملية لنسف البنية الأساسية وقتل أبطال الشرطة والجيش، وعمليات عسكرية فى سيناء.
ومع مطلع عام ٢٠١٥ ارتفعت درجة الحرارة مرة أخرى فى شهرى يناير وفبراير، ولكن المواجهة انتهت إلى تراجع شديد فى العمليات الإرهابية وعودة الحرارة إلى قرب حالتها الطبيعية مع نهاية العام. كان «الضغط» الهيكلى لعلاقة الموارد بالنفقات شديداً، والضغط اليومى لاستقبال العالم لثورة يونيو كاشفاً عن أن المنظومة المصرية قد باتت تعرف ما تريد الخلاص منه، ولكنها لم تعرف بعد ما الذى تريد تحقيقه.
بعض من الظروف، وهذه تشبه حالة الطقس، ساعدت فى تخفيف الضغوط مع اشتداد الإرهاب فى المنطقة، واكتشاف دول كثيرة، عربية وغير عربية، أن الحاجة لمصر أياً كانت حالتها، أفضل بكثير من غيابها.
فى الجسد البشرى يعرف الأطباء أولاً كيف يحللون هذه الثلاثية من الوظائف الحيوية، وثانياً كيف يتعاملون معها كل على حدة، ومع الثلاثة مجتمعة إذا ما كان حظ الإنسان تعيساً. بالطبع فإن النجاح ليس مضموناً فى كل الأوقات، ولكن فى حالة المجتمعات الإنسانية فإن المسألة أكثر تعقيداً. فالساسة، وهم المقابل الموضوعى للأطباء فى حالة جسم الإنسان، لا ينظرون دائماً لمجتمعاتهم، والحكم، بهذه الطريقة.
وعلى الأغلب فإن عنصر الزمن لا يكون حاضراً وفارقاً، وهو الذى يحسم فى حالات كثيرة القدرة على التحمل والقدرة على النجاة. هناك بشرى فى الحالة المصرية على أى حال، وهى أن الرئيس السيسى يعتبر نفسه طبيباً من ناحية، كما أن الزمن لديه له ثمن. القضية الغائبة هى أن الوزن، والحرارة، والضغط، هى مظاهر مرتبطة ببعضها وهى فى الحالة الإنسانية، كما فى حالة المجتمعات، تحتاج مقاربة تفضى إلى الإنقاذ. وفى دول أخرى فإن علوم إنقاذ المجتمعات، كما هو الحال فى العلوم الطبية حتى فى أمراض مستعصية مثل السرطان وألزهايمر، باتت متقدمة للغاية!