تحدثنا فى المقالة السابقة عن رجل لم ينحنِ فى الحياة، وأراد له مخالفوه أن يتوارى فى ظلال الحياة، فإذا هو يستكمل مسيرة عمره! فمن أراد أن يكون له دَور ويؤمن به، لا يستطيع العالم أن يوقف خُطواته: إنه أ. د «بطرس بطرس غالى»، صاحب الإرادة الذى لم تهزمها صُعوبات الحياة السياسية، بل كان من النضج والمرونة أن ينتقل من دَور إلى دَور، وأن يكون مؤثِّرًا فى صناعة القرار.
بدأ رحلة د. «بطرس غالى» بالعمل الأكاديمىّ، فألفت الدراسة الأكاديمية مع الثقافة حجر الأساس، ليؤسس بهما طريقه إلى عالم السياسة، فيقول: «كنت مهتمـًّا بالناحية الأكاديمية على أساس أن السياسة ستأتى بعد ذلك، وأننى فى حاجة إلى مزيد من الدراسة، ومزيد من العمل الأكاديمى» أ. هـ. لقد أدرك أن السياسى الناجح هو من بدأ الطريق بالعلم والمعرفة والانفتاح الفكرى والثقافى على الأفكار والحضارات، ومن ثَم صارت له الخَطوات الراسخة التى تُحقق النجاح فى مجال العمل السياسى. وبالفعل حقق نجاحـًا أتاح له القدرة على التأثير فى صنع القرارات، فكما ذكر فى أحد لقاءاته: «العمل الأكاديمى هو سلطة غير مباشرة.. أستطيع أن أؤثِّر (به) على صانع القرار، وما تستهونش بدَور مجموعة المثقفين، وأهميتهم بالنسبة إلى التأثير على القيادة السياسية!» أ. هـ.
أما عن رحلته فى عالم الفكر والثقافة، فقد بدأت منذ الصغر، فإن إصابته بالربو فى سن صغيرة كثيرًا ما كانت تسبب له أرقـًا، وهو ما يضطره إلى الاستيقاظ طويلاً أثناء الليل، لينتهزها فرصة لكى يملأه بالقراءة. وهكذا بدأت رحلة حب جارف بين «بطرس غالى» والكتاب، حتى إنه لم يفارق أحدهما الآخر حتى أيامه الأخيرة! كما كان لعمه الذى كان يشغل منصب وزير الخارجيةـ دَور كبير فى دعم فكرة «القراءة والاطلاع» لديه، إذ كان يهتم ويتابع أحدث قراءاته. وهكذا فتح له الكتاب عالمًا جديدًا من الفكر، أعده لدَور عظيم فى المجال الحياتى والعملى فى مراحل عديدة من حياته.
تَميز «بطرس غالى» أيضا فى مجال «الكتابة»، إذ كانت تُنشر له مقالات منتظمة فى جريدة «مصر»، فى أثناء دراسته فى «باريس» لنَيل درجة «الدكتوراه» فى القانون الدُّولى. وبعد عودته من «فرنسا»، فى المدة من ١٩٤٩م حتى قيام الثورة المصرية فى عام ١٩٥٢م، بدأ كتابة مقالات فى مجلة «الشعلة»، التى كانت تنافس مجلة «روزاليوسف» آنذاك، عن الرحلة إلى «السودان». وتعددت المقالات والكتابات: فمنها ما كان عن الإصلاح الزراعى، وعن السياسة الدُّولية، وغيرها من الموضوعات، حتى أنشأ مجلة «الأهرام الاقتصادى»، ومجلة «السياسة الدولية»، و«صفحة الرأى»، إلى جانب العمل الأكاديمى والمحاضرات العامة. فالجانب الأكاديمى يُعطى عمقـًا لكل ما هو ثقافى، والنشاط الثقافى يقدم مجالاً رحبـًا للأكاديمى، فيعزز كل منهما الآخر، وهٰكذا تعمَّق الاثنان فى شخصية د. «بطرس غالى» ليُعداه لمهام وأدوار هى بحق جُلَل على المستويين المِصرى والعالمى.
مرحلة أخرى، ظن كثيرون أنها ستكون كبوة فى حياة د. «بطرس غالى»، وأنها ستنتهى به إلى قرار الرحيل عن «مِصر»، حين خضعت ممتلكات أسرته لقوانين الإصلاح الزراعى وفقدت كثيرًا منها، ولٰكنه لم يتأثر بذلك واستمر فى مُهمته التى آمن بها وهى التدريس فى الجامعة، وانضم إلى التنظيمات السياسية آنذاك، واشترك بإيجابية فى الثورة. وفى اعتقادى أن منحاه هذا يعود إلى التكوين الأكاديمى والثقافى والفكرى الذى بنى لديه نظرة أعمق، ورؤية إيجابية للمتغيرات السياسية فى المجتمع المِصرى، إضافة إلى تلك الخبرات التى اكتسبها فى «باريس» إبّان دراسته واحتكاكاته بعديد من الجنسيات العربية والأجنبية، فاستطاع استيعاب تلك المرحلة الجديدة التى أقدمت عليها «مِصر» فى ثورة ١٩٥٢م، وبخاصة أنها لاقت صدًى فيما لديه من أفكار ومعتقدات فيقول: «كنتُ مؤمنا بأهمية الإصلاح، والإصلاح الزراعى، وكتبتُ عن هذا الموضوع قبلاً مقالات نُشرت. ثانيًا، كنتُ متحمسا للفكر الجديد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المِصرية، فكنتُ كشاب من أنصار هذه الثورة.. كنت أشعر أننى أستطيع- رغم أننى أنتمى إلى- وَفقًا لمفاهيم الثورة- عائلة إقطاعية، رغم ذلك أنى أستطيع أن أعمل، وأن أساهم.. كان فيه قناعة، والدليل على ذلك أول كتاب صدر لى كان عن «تأميم قناة السويس» سنة ١٩٥٦م» أ. هـ.
وفى خلال تلك الحقبة، قدَّم محاضرات أسبوعية فى نادى الصحفيين عن الوضع السياسى، وهكذا ساهم الشاب «بطرس غالى» فى العمل السياسى بإيجابية، رافضا فكرة ترك «مِصر» مع أن الفرصة كانت سانحة له عندما قُدِّم له عرض بالتدريس مدة عام آخر فى «أمريكا»، بعد أن قضى بها العام الدراسى ١٩٥٤ /١٩٥٥م كأستاذ زائر.
وتستمر مسيرة النجاح حتى يُختار «بطرس غالى» وزير دولة فى شُؤون الرئاسة فى ١٩٧٧م، فقد كان عضوًا فى لجنة خبراء «هيئة العمل الدولى» التى تراقب الاتفاقيات الدُّولية من حيث احترام الدُّول التى وقَّعتها لها أو عدمه، كما كان عضوًا فى «لجنة الاستشارات القانونية الدُّولية». وقد كان اختياره لذلك المنصب، كما كشف له كل من الرئيس الراحل «أنور السادات» ورئيس الوزراء آنذاك «ممدوح سالم»، يعود إلى نشاطه الهائل وجُهوده المبذولة فى المجال السياسى، إذ كان عضوًا فى المكتب السياسى «للاتحاد الاشتراكى»، فقام بعمل اتفاقيات مع عدد من الأحزاب فى «الهند» و«تونس» و«السنغال»، وتمكن من إنشاء «دولية اشتراكية» بين الأحزاب الأفريقية، كل هذا إلى جانب المقالات والاتصالات الدُّولية والدراسات التى قام بها، وهو ما عكس شخصية ثرية فى الفكر تستحق أن تتبوأ أى منصب رفيع.
ولا تخلو مسيرة أى نجاح من هجوم وانتقادات: فقد تعرض د. «بطرس غالى» لكثير من النقد، إلا أنه لم يؤثر فى مسيرته، ولم يضعف من عزيمته أو جُهوده ونشاطاته، إذ قد وعى أهمية الاستمرار فى العمل الذى يؤمن به، فيقول: «المركز السياسى يتطلب أن تكون لك القدرة على أن تتحمل الانتقادات، وتستمر فى العمل، لو كنتَ مقتنعا بالعمل رغم هذه الانتقادات» أ.هـ.
لقد تعرض د. «بطرس غالى» لانتقادات خاصة بزواجه، حيث رُوِّج من شابة يهودية، وحقيقة الأمر أن زوجته السيدة «ليا نادلر» هى مَسيحية كاثوليكية، وإن كانت تنتمى إلى عائلة أصولها يهودية. وتعرَّض أيضا لهجوم شديد واتهام بالخيانة، عندما ذهب إلى «القدس» مع الرئيس «السادات»، لٰكن إيمانه بأهمية الحوار مع العدُو لاستعادة الأراضى المحتلة فى «سيناء» كان هدفا يضعه نُصْب عينيه. ولم يقف الهجوم والنقد عند هذا الحد، بل وصلا إلى المستوى الدُّولى! عندما شنت أقوى دولة فى العالم هجوما عليه فى أثناء إعادة انتخابه مدةً ثانية أمينا عاما «للأمم المتحدة»، ومع هذا فقد ساندته ١٤ دولة!! فلم تجد «الولايات المتحدة الأمريكية» وسيلة أخرى سوى استعمال حق الـ«ڤيتو».
ومع كل ما تعرض له من ضغوط، فإنه لم يقبل أن يخالف ضميره فى أمر إعلان التقرير المختص بـ«قانا»، تلك المدينة اللُّبنانية التى شهِدت مذبحة مروعة، فيقول: «أُجريَت اتصالات بى.. قالوا لى: أنتم مصلحتكم أن ينجح «شيمون بيريز»ـ حزب العمل.. ملكش مصلحة إنك تنشر هذا التقرير، لأن هذا سيضر «شيمون بيريز» فى انتخاباته، وبالتالى مصلحتك إن التقرير ما يتنشرش، وبعدين اقترحوا على اقتراحا آخر: إن التقرير يكون تقرير شفوى» أ. هـ، إلا أنه مع كل ما تعرض له من ضغوط ومحاولات، قرر نشره، وقال فى أحد اللقاءات: «ليس لدى أى شعور بالمرارة. يكفى أننى فعلتُ ما يُمليه على ضميرى» أ.هـ.
أيضًا كان له من القوة على اتخاذ قرارات لم ترضَ عنها «أمريكا»، وبخاصة موضوع «يوغوسلاڤيا» وعدم استخدام القصف بالطائرات إلا بموافقة الأمين العام وسكرتير «الحلف الأطلنطى».
وفى ظل تلك الأمور والمسؤوليات، كان د. «غالى»... و... وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسى