محمد حسنين هيكل.. حكاية تلميذ.. إلى نهاية العُمر

سعد الدين ابراهيم الجمعة 26-02-2016 21:09

بعد رحيله يوم 17/2/2016 كتب الكثيرون عن محمد حسنين هيكل، أشهر رموز الصحافة المصرية فى القرن العشرين. وتناولوا مسيرته المليئة بالإنجازات. ولم يكن ذلك إلا لأن كل من كان له علاقة بالشأن العام خلال الخمسين سنة الماضية لا بد أن يكون قد تأثر «بالأستاذ» إيجاباً فى معظم الأحيان، أو حتى سلباً فى بعض الأحيان.

وما سأذكره فى هذا المقال هو شىء لم يعلم عنه شيئاً إلا ربما ثلاثين طالباً، زاملوه فى العام الدراسى 1978/1979 بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (AUC)، فى مادة المجتمع المصرى (Egyptian Society)، التى كنت أقوم بتدريسها لطلبة الماجستير، مع زميلى وصديقى الأستاذ السيد يسن.

ففى أول يوم للدراسة فى خريف ذلك العام، دخلت قاعة الدراسة، وخلال الدقائق الأولى التى أرحّب فيها بالطلبة، وأوزع عليهم خطة العمل فى المادة، فى ثلاث صفحات مطبوعة، التقت عيناى بطالب أشيب يجلس فى الصف الأول، بدا شكله مألوفاً، فأعملت الذاكرة سريعاً، حيث اهتدت الذاكرة إلى أنه يُشبه صور الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى طالما كانت تظهر صورته على مقالاته فى صحيفة الأهرام كل يوم جمعة، تحت عنوانه الأليف «بصراحة»، والذى توقف فقط حينما استقال صاحبه قبل عدة سنوات (أوائل عام 1974).

تقدمت نحو ذلك الأشيب وسألته على استحياء، «هل هو الأستاذ هيكل؟» فرد الطالب بابتسامة مُضيئة، بالإيجاب (نعم). فقلت له، وماذا تفعل هنا يا أستاذ؟، فأخرج الرجل على الفور بطاقة تسجيله فى الجامعة الأمريكية. فطلبت منه أن يخرج معى، بعد أن استأذنت بقية الطلبة أننى سأتغيب لعدة دقائق، واصطحبت الرجل إلى مكتبى، لمزيد من الاستيضاح.

وكان هيكل مستعداً للموقف، فقال فى كلمات واضحة وصريحة: إننى كنت أكتب للآخرين على مدى ثلاثين عاماً.. وتوقفت عن الكتابة إليهم مع مُغادرتى لصحيفة الأهرام قبل أربع سنوات. وقررت أن أعكف على القراءة الحُرة، وخاصة تلك التى لم تكن مُتاحة لى عن مصر والوطن العربى. وقد عرفت من صديقك د. عبدالوهاب المسيرى أنك تقوم بتدريس مادة هامة عن المجتمع المصرى، وأن الجامعة الأمريكية ما زال نظامها يسمح للتسجيل وحضور المواد التى تقدمها نظير مصروفات ورسوم فى مُتناول من يُريدون التزود بالعلم والمعرفة. فها أنا هنا لهذا الغرض.

فبادرته بأن جيلى هو الذى طالما تعلم من مقالاته خلال العقود الثلاثة الماضية. فرد مُداعباً، لا تقل ذلك فتجعل منى شيخاً هرماً!

فقلت له عفواً، لم أقصد ذلك على الإطلاق، ولكن بدلاً من أن تجشم نفسك المتاعب والمشوار من منزلك إلى الجامعة، فإننى أتعهد بتوفير الكُتب والمراجع التى سأستعين بها مع طُلابى فى مادة المجتمع المصرى لسيادتك. وكأنه كان يتوقع ذلك أيضاً، فبادرنى بأن جزءاً من حِرصه على التسجيل كطالب مُستمع، هو أن يتفاعل مع جيل جديد من شباب مصر، على أمل اكتشافهم من ناحية، وتجديد نفسه من ناحية أخرى. وأن السياق فى الجامعة الأمريكية يُتيح ذلك أكثر منه فى أى جامعة مصرية حكومية، حيث إن الأعداد فى تلك الأخيرة بالآلاف، وهو ما لا يسمح بالتفاعل والنقاش الجاد المُباشر. فالتقارير التى تأتيه عن التعليم الجامعى فى ذلك الوقت (أواخر السبعينيات)، هى أن الأستاذ يُلقى مُحاضرته على عجل فى مدرجات تتسع لعدة مئات، يصعب عليه فيها أن يُدير نقاشاً أو حواراً. وذلك عكس الجامعة الأمريكية.

اقتنعت بوجهة نظر هيكل، بل أعجبت بمنطقه وحججه. فقلت له مرحباً بك أستاذاً وتلميذاً، وهو شرف كبير أن تكون معنا هذا العام الدراسى.

وللأمانة والتاريخ، كان الرجل هو الأكثر انضباطاً ومواظبة، وتأدية لواجباته فى تلك المادة، فى ذلك العام الدراسى. من ذلك أنه كان أول الطلبة حضوراً إلى قاعة المُحاضرات، وآخرهم انصرافاً. وكان هو الأكثر تأدية للواجب الأسبوعى، حيث كان يقرأ المادة مقدماً، ويُعد عليها مُلخصاً، ثم سؤالاً واحداً على الأقل عما لم يفهمه أو ما لم يتفق معه مما قرأه، ثم سؤالاً، أو نقطة موجهة لزُملائه لكى نفتتح بها حواراً أو نقاشاً جماعياً.

وبينما كان الفرد من الطلبة المُنتظمين يتغيب ثلاث أو أربع مرات فى المتوسط خلال العام الدراسى، لم يتخلف محمد حسنين هيكل إلا مرتين، استأذن فى التغيب فيهما مقدماً، المرة الأولى لسفره إلى إيران لمُقابلة صحفية مع زعيم الثورة الإسلامية، الإمام روح الله الخومينى. والثانية لحضور أحد مؤتمرات القمة العربية، وأظنه كان فى الرياض، لمشاورات حول تداعيات تلك الثورة، على الشاطئ الآخر من الخليج العربى ـ الفارسى.

بعد انتهاء ذلك العام الدراسى دأب الأستاذ هيكل على التواصل معى لأمرين: الأول، ليُتابع ما هو جديد فيما أقرره على طُلابى من كُتب فى مادتى المجتمع المصرى والمجتمع العربى.

والأمر الثانى هو لدعوتى لقضاء يوم فى ضيافته بمزرعته فى ناحية برقاش، خاصة حينما يكون شقيقه الأصغر، فوزى هيكل، فى زيارة لأسرته فى القاهرة. وكان فوزى هيكل رحمة الله عليه، زميلاً وصديقاً حميماً منذ سنوات دراستنا فى الولايات المتحدة فى ستينيات القرن الماضى.

وحينما كان الرئيس الراحل أنور السادات ينوى القبض عليه، هو والأنبا شنودة، وعلمت بالأمر أثناء زيارة لى مع الرئيس فى استراحته بالمنتزه فى الإسكندرية يوم 29 أغسطس 1981، توسلت إليه ألا يفعل ذلك، لأنه لو فعل ستكون تلك بداية النهاية لنظام حُكمه، حيث لم يسبق لحاكم مصرى مُسلم أن عزل بطريرك للكنيسة القبطية المصرية خلال أربعة عشر قرناً، أى منذ دخول الإسلام إلى مصر. ولكن السادات لم يستمع، لا لى ولا لزوجته الوفية السيدة جيهان السادات، التى اتفقت معى فى ذلك الرجاء، فأمر بسجن هيكل وكل رموز الحياة السياسية والفكرية فى ذلك الوقت (5 سبتمبر 1981). وصح ما توقعناه، فقد طالت الرئيس السادات رصاصات الاغتيال خلال شهر من تلك الواقعة (6 أكتوبر 1981)، أثناء احتفاله بانتصارات أكتوبر، على أيدى أحد الإسلاميين المتشددين، وهو خالد الإسلامبولى.

وحينما أفرج الرئيس محمد حسنى مبارك عن هيكل وأكثر من مائة آخرين ممن اعتقلوا معه، ذهبت لتهنئة هيكل على الإفراج. وكان أول ما سألنى عنه هو الجديد من الكُتب التى قررتها على تلاميذى فى مادة المجتمع المصرى للعام الدراسى 81/82. ثم كان طلبه الثانى هو أن يستعير ثلاثا من مُساعداتى لمُعاونته فى المرحلة الجديدة من حياته، وهى الانتقال من الكتابة الصحفية الخفيفة إلى الأكاديمية الرصينة والموثقة.

وقد استجبت للطلبين إلا قليلاً. فمن مُساعداتى الثلاث التى طلب منى التنازل عنهن، جيهان عطية، ومايسة الجمل، ونعمت جنينة. وافقت الأولى والثانية، واعتذرت الثالثة، رغم أنه عرض عليهن وقتها ثلاثة أمثال ما كانت تدفعه لهن الجامعة الأمريكية. وحينما سألت نعمت جنينة عن سبب رفضها رغم سخاء عرض هيكل، أجابتنى بأنها طلبت مليون دولار. وهو ما أدرك معه هيكل أن ذلك كان تعجيزاً له. وحينما قال إنه موافق اعتذرت، حيث إنها تفضل العمل مع غيره!

رحم الله الكاتب الكبير، والصحفى اللامع، وطالب العلم الأبدى، محمد حسنين هيكل.. آمين.

وعلى الله قصد السبيل.

semibrahim@gmail.com