الصوت الخافت بين الإجرام والحكمة

مصباح قطب الخميس 25-02-2016 21:23

شلالات الصخب فى مصر الرسمية والأهلية يضيع فيها المجداف والملاح والمركب، دون أن يتخلف عن كل ذلك سمكة واحدة. قرأت منذ عشرين عاما مقالا للكاتب الإسرائيلى نصف الصهيونى «عاموس عوز» عنوانه: «زمن الصوت الخافت الضعيف»، ويتحدث فيه عمن يحركون الدنيا من ركن قصى بلا جلبة. أستعيد كثيرا عبارة قالها الرئيس الأمريكى فى سياق فيلم سينمائى وأنهى بها الاجتماع الذى سبق الأمر بإلقاء قنبلتين على نجازاكى وهيروشيما، قال بصوت لا يكاد يسمع: «لا مفر إذن عن أن نفعلها». أى نلقيهما. فى ذلك القول «الخافت الضعيف» ضاع نحو 200 ألف مواطن يابانى ومازال مئات الآلاف يعانون للآن. بيد أن للصوت الخافت الإجرامى وجها آخر هو الحكمة التى يمكن أن تفعص الحديد أو هى قد «فدغته» بالفعل. منذ يومين وزع المكتب الصحفى بسفارة سلطنة عمان بالقاهرة بيانا يتناول دور السلطنة فى ملف شديد التعقيد والحساسية فى أمريكا والعالم ألا وهو معتقل جوانتانامو. لعبت السلطنة دورا متواصلا لإيجاد مخرج من مأزق استمرار معتقل وعد أوباما فى بداية حكمه أن يغلقه ومضت الأيام دون أن يفعل، كما استجارت الإنسانية من استمراره المخالف لكل المواثيق القانونية. تم دور السلطنة ويجرى حتى الآن دون أن نسمع لتحركها صوتا. وحتى حين أرادت أن تفصح فعلتها بحكمة ترى بالعين المجردة، لم تعلن السلطنة مباشرة ما قامت به من عمل، حيث حمل البيان الصحفى فقط تلخيصا لتقرير لكاتب أمريكى بصحيفة المونيتور اسمه جورج كارفيو عن الموضوع.

أشار الكاتب إلى أن عمان استقبلت 10 من المعتلقين فى سجن جوانتانامو فى يناير 2016، وبذلك تصبح السلطنة الوجهة الأساسية لنقل السجناء منذ بدء عمليات الإجلاء، ذلك لأنها استقبلت نصف المعتقلين فى جوانتانامو منذ يناير من عام 2015.

أضاف أن البنتاجون أعرب عن امتنانه للجهود الحثيثة التى تسعى إلى إغلاق المعتقل خصوصا أن الجهود تسارعت بعد الإجراءات الأمنية المناسبة فى مسقط والمعاملة الحسنة للسجناء.

وذكر كارفيو أن سلطنة عمان دولة ذات تأثير سياسى مهم فى المنطقة كما أنها ذات شراكة عسكرية مع الولايات المتحدة منذ عام 1980 ونوه إلى قول جون كيرى بأن عُمان تقدم الاستشارة الحكيمة وتساعد فى إيجاد الحلول لمختلف المشاكل فى المنطقة وما الاتفاق النووى الإيرانى إلا أحد الأمثلة على ذلك، كما أنها الدولة الخليجية الوحيدة التى لم تشارك فى التدخل العسكرى بقيادة السعودية. (وهناك الكثير مما قامت به الدبلوماسية الصامتة العمانية ولا مجال لتكراره).

أشار التقرير إلى أن أوباما يسعى إلى تفريغ المعتقل وقد تم إطلاق صراح ما لا يقل عن 21 من السجناء منذ يناير 2015 وهذا ما يؤكد سعى السلطنة إلى أن تكون حليفا لواشنطن كدولة عربية إسلامية معتدلة ومستقلة، ولقد طرح الكاتب سؤالا حول مدى استطاعة أوباما تحقيق وعده فى إطلاق سراح بقية المعتلقين الذين يصل عددهم 91 معتقلا خلال 11 شهرا خصوصا أن السلطنة لديها القدرة على استقبال غالبية اليمنيين المحتجزين وهم يشكلون غالبية المعتقلين المتبقين.

هكذا إذن، سينفلق حديد السجن بلا ضربة مطرقة واحدة. لا عمرو أديب ولا مرتضى فى الموضوع. الأخطر- وحسبما قرأت على موقع «نون بوست» أن دول الخليج بقيادة السعودية تنظر بعين العدواة إلى المشروع الإيرانى وهو أمر لا تختلف عُمان جذريًا معه، لكنها تُفضل التعامل بواقعية شديدة مع دولة كبيرة بحجم إيران ولم تتطرف فى هذا الطرح وقررت عدم خوض معركة خاسرة مع إيران باستعدائها للأبد، ما أثر فى نهج الإمارات وقطر لاحقا تجاه إيران.

أى أن الحكمة تعمل أيضا وبفاعلية فى ملف ملتهب كملف العلاقات العربية الإيرانية. وثمة أمر شخصى- عاش مثله كثيرون- هو أن العيش ولو لأيام فى عمان يفتنك- بسبب حكمة الناس العادية أيضا وقوة التحضر والاتزان- إلى حد أن البعض يعتقد بوجود نوع من أعمال السحر يشده إلى إعادة زيارة هذا البلد والعيش وسط أهله مرة أخرى كلما غادره (النائبة بسنت فهمى تعتقد ذلك).

نهر الحكمة فى مصر- منبع الحكمة- يكاد ينضب، وتحت هدير القصف المتواصل من الصراخ يضيع ما لا يجب أن يضيع: قدرتنا على بناء بلد عصرى ديمقراطى حضارى حديث وقوى بلا جعجعة.

mesbahkotb@gmail.com